بعد أمطار وسيول الأربعاء التي اجتاحت مدينة جدة، تساءل البعض في الوسائل الإعلامية عن مصير تقرير لجنة تقصي الحقائق، وعن تقارير ديوان المراقبة العامة حول المشاريع الحكومية وخاصةً في مدينة جدة، ولماذا هذا الغموض حول هذه التقارير في ظل الشفافية التي ينتهجها خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، مما قد يفتح مجالاً لمختلف التأويلات.
هذا التساؤل في الحقيقة يقودنا إلى الحديث عن تقارير الأجهزة الرقابية وبالأخص ديوان المراقبة العامة، هذا الجهاز الذي يؤدي عملاً حساساً ودقيقاً بصفته الجهاز الأعلى للرقابة في الدولة.
فالتقارير التي يتم إصدارها سنوياً من قبل الديوان، ما هي طبيعتها؟ وما الهدف منها؟ وما هو دورها؟ وكيف يتم التعامل معها؟ ولماذا هي سرية؟.
وقبل الإجابة على هذه الأسئلة، أجد من الضروري في البداية أن أتحدث عن أهمية تقارير الديوان والدور الهام الذي تؤديه في تعزيز المساءلة والشفافية في العمليات والمشاريع الحكومية.
فمن المعلوم أن الجهات الحكومية يتم تمويلها من المال العام للدولة لتحقيق الأهداف التي أنشئت من أجلها، ولتحقيق هذه الأهداف تقوم هذه الجهات بعمل مشاريع وبرامج يتم التعاقد من خلالها مع شركات ومؤسسات القطاع الخاص، ولأغراض المساءلة تقوم هذه الجهات بإعداد تقارير مالية وإدارية ويتم رفعها للسلطة التشريعية، وبالتالي فإنها تحتاج إلى جهة محايدة ومستقلة لإبداء رأيها حول هذه التقارير لإضفاء الثقة والمصداقية حتى يتم الاعتماد عليها، والجهة المحايدة هي ديوان المراقبة العامة، لذا يرفع الديوان في نهاية كل سنة مالية تقريراً إلى المقام السامي، ومجلس الشورى، يتضمن نتائج الرقابة المالية والأداء على الجهات الحكومية.
ولنأخذ على سبيل المثال أمانة محافظة جدة، ففي نهاية كل سنة مالية تقدم الأمانة الحساب الختامي لها، فمن ناحية المساءلة، فقد تم تقديم الحسابات المالية كما هو مطلوب منها، وعليه فإنه من المفترض أن الديوان يقوم بالمصادقة على هذه الحسابات من خلال إبداء رأيه الفني، وبالطبع هذا الرأي يتكون من خلال عمليات وإجراءات معقدة تتم وفق إطار معايير المراجعة المهنية.
وبناء على ما سبق سوف يتضح للسلطة التشريعية ما مدى مصداقية التقارير المالية والإدارية التي قدمتها الأمانة، كما أنه يمكن أيضاً التعرف على وضع مشاريع الأمانة، ومنها على سبيل المثال مشاريع تصريف السيول، كما أن تقييم أنظمة الرقابة الداخلية سوف تكشف لنا أيضاً مخاطر هذه المشاريع ومخاطر الغش والفساد.
هذا باختصار شديد ما يخص طبيعة ودور تقارير ديوان المراقبة العامة، إلا أن المشكلة التي لدينا، أنه يتم التعامل مع هذه التقارير على أنها تقارير لجهاز تنفيذي، وليس رقابيا مستقلا، أي أنه يتم التعامل معها كما يتم التعامل مع تقارير الأجهزة الحكومية الأخرى، وهذا ما يضعف في الحقيقة مبدأ المساءلة.
هذه من ناحية ومن ناحية أخرى لا توجد إجراءات حازمة في محاسبة المقصرين والمتسببين
في مخالفة الأنظمة والقوانين، وبالتالي يأتي عدم الاهتمام بملاحظات الديوان من قبل الجهات الحكومية وعدم أخذ توصياته على محمل الجد.
كما أن كثيرا من تقارير الديوان لا تتم قراءتها قراءة وافية وكاملة، ولا تتم أيضاً مناقشة كل جهة تنفيذية بناءً على ما جاء في تقارير الديوان.
وفي الجانب الآخر نجد أن الجهات الحكومية تهتم بما ينشر عنها من ملاحظات في الوسائل الإعلامية، بل ويتم اتخاذ إجراءات سريعة لمعالجة هذه الملاحظات وتتم مناقشة هذه الجهات في مجلس الشورى لما تم نشره في الصحف.
وتأسيساً على ما تقدم يظهر لدينا أن هناك نقصا واضحا في مستوى الوعي بأهمية التقارير الرقابية في ضمان المساءلة العامة، بالإضافة إلى أن تقارير الديوان ورسالته غير واضحة للناس عموماً، والسبب في ذلك هو غموض العمل الرقابي وهذا الغموض سببه الرئيسي هو عدم وجود شفافية في نشر تقارير الديوان والاطلاع عليها من قبل المواطنين.
وقد يقول قائل إن السبب في عدم نشر تقارير الديوان هي المادة (14) من نظام الديوان والذي ينص على أن: "يلتزم الديوان باتخاذ الإجراءات الكفيلة بالمحافظة التامة على أسرار الجهات التي يقوم بمراقبتها".
وبالرغم من الوجاهة المنطقية لسرية تقارير الديوان، إلا أنها في الحقيقة لا تتعلق بسرية التقارير نفسها، إذ إن المادة السابقة تتعلق بأعمال الجهات وليست تقارير الديوان وبالتحديد أوراق العمل وأدلة الإثبات التي يحصل عليها الديوان، كما أن نص المادة السابقة موجود في نصوص قوانين الأجهزة العليا للرقابة في دول العالم، ومع ذلك يتم نشر تقاريرها على مواقعها الإلكترونية في الإنترنت، ولا نذهب بعيداً فإن نفس نص المادة موجود في معايير المراجعة لدى شركات المراجعة القانونية فقد نصت القاعدة (301) من قواعد السلوك المهني على أنه "يجب على العضو عدم إفشاء أي أسرار خاصة بالعميل يكون قد حصل عليها أثناء عملية المراجعة"، ومع ذلك يتم نشر التقارير المالية وتقرير المحاسب القانوني في الوسائل الإعلامية، وإذا حدث تعارض بين مفهوم الإفصاح ومفهوم أسرار العملاء فيجب بدون منازع تغليب مفهوم الإفصاح الكامل.
وبالطبع لا يفهم من كلامي السابق أن يتم نشر تقارير الديوان على مصراعيه ولكن هناك شروط وإجراءات تحدد ما هو سري وغير سري يصعب إحاطتها في هذا المقال.
وفي النهاية وبعد حدوث كارثة جدة، ولتفعيل المساءلة والشفافية وحتى لا تكون هناك حلول مؤقتة، أقترح أن يتم تغيير اسم ديوان المراقبة إلى ديوان المساءلة ومن الضروري أيضاً بناء علاقات فعّالة مع الوسائل الإعلامية من قبل الديوان ووضع استراتيجية إعلامية لذلك، حتى تهتم وسائل الإعلام بالرقابة والمراجعة وتوضح رسائلها ومهامها للجميع، وهذا بدوره يؤدي إلى تعزيز المساءلة وزيادة الشفافية وتحسين إدارة الأموال العامة.