قيل كل ما يمكن أن يقال عن كارثة جدة، طرحت عشرات الأسئلة التي مازالت مفتوحة وستظل كذلك، طالما أن الغموض والسرية يحيطان الكثير من الإجراءات، وهما غموض وسرية لم يعد لهما مكان من الإعراب في عالم اليوم، وهما يشيران بوضوح إلى أن هناك الكثير من الإجراءات التقليدية لم تعد صالحة للحياة، وهناك الكثير من آليات العمل لا بد من تغييرها جذريا لتخرج من سلحفائية الرتابة إلى حيوية الإنجاز، أمطار جدة كشفت كل ذلك، أوضحت أن الزمن تغير ولا مناص لنا من مواكبته، المواكبة تتطلب تفكيرا جديدا وفعلا متطورا وعلاجا جذريا.
أمطار جدة قدمت الدليل تلو الدليل على ما يعرفه وحذر منه كثيرون منذ سنين طويلة، لكن الآن الدليل قائم والواقع يتحدث عن الخلل التنموي الجسيم الذي تجرعت ومازالت جدة تتجرع بسببه الكارثة، وهو الخلل الذي إن لم يعالج بسرعة فإن مدنا أخرى ستتجرع ما تجرعته جدة، وسيقال عنها ما قيل عن جدة، مع حفظ حقوق التفوق والأسبقية لعروس البحر.
الخلل التنموي الواضح هو أننا نبني الأدوار العليا للمدن والمحافظات على أسس هشة أو بدون أسس فعلية، هل يمكن إقامة عمارة بدون قواعد؟ قواعد المدن هي البنية التحتية المتينة التي افتقدتها جدة فأصبحت تنتظر الكارثة تلو الأخرى مع كل زخة مطر، وتفتقدها الآن معظم المدن الأخرى وهي لا شك تنتظر دورها في المأساة.
البنية التحتية ليست اختراعا جديدا ولا كشفا أسطوريا، فهي بديهية تنموية قديمة جدا، فمن البديهي تهيئة مجاري السيول وعدم اعتراض طريقها، ومن البديهي وضع تصريف صحي، ومن البديهي وضع أنفاق صغيرة أو كبيرة للخدمات الأخرى مثل الكهرباء والماء وغيرها. هذه البديهيات لم تحدث في جدة فكانت الكارثتان، وهي غير موجودة في مدن أخرى سيأتيها الدور الكارثي.
لماذا لم تحدث هذه البديهيات؟ هناك فساد عريق أفضى إلى عدم حدوثها، فساد تخطيط ومخططات، وفساد تنفيذ، هذا الفساد لا بد من تتبع منابعه وتفرعاته ومحاسبة الجميع ومعاقبتهم علنا، وهو ما أمر به الملك بعد كارثة جدة الأولى، ولكن الانشغال بهذه المكافحة يجب ألا يصرفنا عن لب القضية وقلبها، وهو معالجة غياب هذه البنية التحتية وبسرعة متناهية.
جدة الآن بحاجة ماسة وسريعة وملحة إلى مشروع إنقاذ يأخذ أولوية مطلقة على ما عداه من حاجاتها الأخرى، فما لم يبدأ مشروع الإنقاذ هذا فورا وبصورة شاملة لكل بنيتها التحتية، فإن أي إنشاءات تنموية أخرى من الموجودة الآن أو تلك القادمة ستكون مهددة بالزوال السريع والمريع، مشروع إنقاذ جدة ملح ولا يحتمل التأجيل ولا التسويف ولا التذرع بأي عذر، وهو سيكون ـ إن حدث ـ أنموذجا يحتذى في غيرها من المدن الأخرى. جدة الآن تمتحن قدرتنا على الإنقاذ ومكافحة الفساد لتكون أنموذجا جميلا لقدرة الوطن كله.