الإبداع، في كل مناشط الحياة، تحركه الحرية، يسمو في سماواتها النقية، ويحفز أهله التفاعل الإيجابي مع الواقع فلا تقف في وجهه السدود ولا تصده القيود ولا تجمد صوره عند حدود طالما أن العقل يعمل والهمم تستنهض والنفوس تتطلع إلى آفاق المستقبل.. ومن مظاهر الإبداع أن يبحث المسؤول، في جميع المستويات، عن كل ما يساعده على فهم بيئة عمله والتعرف على رأي من يعملون معه أو يؤثرون في خططه.. ونحن ـ في المملكة ـ يحتاج المسؤولون لدينا إلى ابتكار صيغ وقوالب تساعدهم على معرفة رأي الناس من حولهم وعدم الارتهان للواقع الذي لا يتوفر على منابر تعين على تكوين رأي عام يستطيع المراقب أن يطمئن على توجهه..

الأمير خالد الفيصل ـ منذ تولى مسؤولية إمارة مكة المكرمة ـ وهو يحرك الساحة ويرفع لافتات الأمل ويقف في وجه خطاب الإحباط والتثبيط ـ مرة بالإشارة ومرة بالعبارة ـ. وها هو، في عامه الرابع، ما يزال يستنهض همة أبناء المنطقة ويحفز قواهم المؤثرة بالمشاركة والحوار من أجل التعرف على همومهم وتطلعاتهم واستثمار قدراتهم لمصلحة إنسان المنطقة ورفعة مكانه ليكون قدوة يقدم النموذج الإنساني الكريم.

وفي الأسبوع الماضي التقى ـ ضمن سلسلة لقاءات مبرمجة في هذا الإطار ـ مديري الجامعات وبعض المثقفين والصحفيين والكتاب ليستمع إليهم: كيف يرون الحال؟ وماذا يريدون؟ وكيف الوصول بالأفكار والمقترحات إلى واقع الناس؟.. واستمع إلى هموم الشباب والشكوى من تنافر الأطياف وإهدار طاقات المجتمع في صراع لا يخدم التنمية الوطنية والمطالبة بإقامة معرض للكتاب وإقامة صالات عرض مسرحية والاهتمام بمخرجات التعليم وضرورة وجود معايير تقيس مدى نجاح مشاريع التنمية والإنتاج النوعي، ودراسات ميدانية تتعرف على واقع حياة الناس بدلاً من الاكتفاء بالمقاييس العامة التي تتحدث عن نسبة نمو الاقتصاد ومتوسط دخل الفرد دون فحص مواطن التكدس وأماكن الحاجة، فهذه الأرقام والنسب قد تكون أحياناً مضللة خاصة في بعض المجتمعات التي لا تطبق مفهوم التنمية المتوازنة. كما استمع إلى شكوى الصحفيين من شح المعلومات وضعف تفاعل الأجهزة الحكومية في المنطقة مع وسائل الإعلام وملاحظاتها على تنفيذ المشاريع من حيث الإتقان والتوقيت وارتفاع التكاليف، وطلبوا إلزام تلك الجهات بالتفاعل مع ما تطرحه الصحافة.

وتحدث الأمير خالد عن فلسفة التفاؤل وحاجة المجتمع إلى التزام الصدق والأمانة ومسؤولية قادة الرأي عن بناء العقول الشابة وتربية الناشئة على حب الوطن وإبراز جوانبه الإيجابية. وأشار إلى جشع الناس وانعكاس هذا الجشع على ترابط المجتمع وتبادل منافعه. وقال إن أكثر الناس جشعاً في مجتمعنا هم الأثرياء! فلو التفتوا إلى الفقراء وأدوا حقوقهم لما بقي في بلادنا فقير أو محتاج.. وانتقد التركيز على النقد السلبي الذي لا يرى من الحراك الدائر على ساحة الوطن إلا تعثره ونقاط ضعفه.. وضرب مثلاً بما كتب عن مطار الملك عبدالعزيز وتركيز وسائل الإعلام على إبراز المبلغ المرصود للمشروع وتغافلها عن مميزات المطار وما سيوفره من خدمات تشكل نقلة نوعية في صناعة النقل. وقال إن الحديث عن تأخر المطار وسوء حالته الماضية حقيقة لا أحد ينكرها لكن الإصرار على إبقاء المزاج العام في الماضي أمر لا يخدم روح التفاؤل والأمل. وفي معرض حديثه عن شعار إلى اللحاق بالعالم المتقدم قال: لو تركنا الكذب يوما واحدا لصرنا في العالم الأول.

وليسمح الأمير خالد الفيصل أن أستعير هذا العنوان "الأخلاقي" العمدة الذي تنبثق منه سلسلة القيم الفاضلة التي أقرها ديننا منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام حين قال نبي الهدى "المؤمن لا يكذب".. وأقول إننا لو تركنا الكذب فلن نرتشي ولن نقبل المرتشين بيننا.. ولو تركنا الكذب فلن ننافق المسؤول وندلس عليه لنخفي عنه الحقائق رغبة في إرضائه أو اتقاء لغضبته.. ولو تركنا الكذب فلن نمدح أحداً بما ليس فيه ولن نضطر إلى تغليف الحقائق بأثواب فضفاضة من الكلام حتى نوصل ما نريد.. ولو تركنا الكذب فلن ندعي أننا مجتمع متجانس تحكمه مفاهيم حضارية ونحن ما نزال في وحل المحسوبية وضيق الجهوية وحقد العنصرية وتتبع جذور "المواطن" لمعرفة أين نبت وأين ترعرع. ولو تركنا الكذب فلن يكون بيننا كاتب يخفي مشاعره حتى يظل قريبا من المسؤول يسمعه ما يشتهي من الكلام حتى لو كان ذلك على حساب الإخلاص لهذا الوطن الكبير.. ولو تركنا الكذب لن يكون بيننا مسؤولون همهم الظهور، ينفقون ثروات الوطن على صور واهمة يجملونا بالإحصاءات الخادعة. وسيكون عار على أساتذة الجامعات وصناع الرأي أن يتخاذلوا عن مسؤولياتهم في نشر العلم الأصيل وبث الوعي الحق أو أن يقزموا دورهم في سوق الثناء والمدح المجاني من أجل منفعة ضئيلة أو كبيرة لا تساوي حق الوطن وكرامة الرجال وعظم المسؤولية.. وسيكون عار على المثقفين والكتاب والصحفيين أن يقول لهم الأمير: لا تكذبوا ثم تراهم مادحين متزلفين، يزينون الأخطاء ويغمضون العيون عن الحقائق..

لو تركنا الكذب سنكون مجتمعا إنسانيا خلاقا تتفجر طاقاته الخيرة في كل اتجاه وسنرى وطنا حاضنا لمشاعر كل أبنائه، يعتزون به ويفخرون.

شكرا أيها الأمير الجليل فدعوتكم إلى الصدق "مشروع" وطني يستحق أن يكون شعار مكة الذي يقودها إلى طموح العالم الأول الذي تحلمون به..

صدقت أيها الأمير فلو تركنا الكذب يوماً واحداً فسنكون في العالم الأول نقدم القدوة والنموذج لكرامة الإنسان وثمرات الفضائل.