عندما صدرت التوجيهات الحازمة الحاسمة القوية في العام الماضي إثر سيول جدة الشهيرة بالتحقيق في أسباب الكارثة ومحاسبة المسؤولين عنها متوجة بعبارة (كائناً من كان) أثارت ضجة كبيرة في وسائل الإعلام وتسيدت أحاديث المجالس، وأحدثت فرحة غامرة لدى المواطنين لأنها أعطت الانطباع القوي بوجود اتجاه جديد يحمل تصميماً قوياً أكيداً باستهداف الفساد بنوعيه المالي والإداري وتتبع خيوطه وأثاره ومواجهته بهدف القضاء عليه، وظل الحديث عن تلك التوجيهات قوياً ليس لأسابيع بل لأشهر، ومع أن الانطباع السائد هو التفاؤل الكبير بأن ما ورد في التوجيه سينفذ بحذافيره، فقد كان هناك أصوات قليلة تتخوف من ألا تتمكن الإرادة من الاستمرار حتى النهاية لوجود أسباب عديدة منها النزعة العاطفية التي اشتهرنا بها، ومنها أن الطريق سيؤدي إلى مناطق رملية يصعب الاستمرار في السير فيها حتى لعربات الدفع الرباعي، وهناك أصوات أقل ليست فقط تتخوف من عدم استمرار إجراءات المحاسبة حتى نهايتها، بل تجزم بذلك لأن "كائنا من كان" كما تقول لابد أن يؤثر خوفاً من الفتنة كما يقال في لبنان الآن.
وكعادة كل الإجراءات التي تتم إثر الكوارث فقد كانت قوية مدوية في البداية، ثم بدأ صوتها يضعف، وبدأت حركتها تتراجع، وشيئاً فشيئاً بدأت مخاوف المواطن تكبر، إذ كانت الإعلانات عن سير التحقيقات ونتائجها تتوالى ثم تتباعد مسافاتها، وكان آخر ما تم الإعلام عنه – على حد علمي – تحويل القضية للادعاء العام ليتولى إجراء المحاكمات ومتابعتها حتى تصدر الأحكام، وكان هناك ما يدل على الاستمرار في التحقيق بالنسبة لجوانب أخرى من أوجه الخلل.
بعد ذلك حصل ما يحصل لبعض المكتشفين الذين يرتادون المجاهل الخطرة ثم يفقد الاتصال بهم، فقد فُقِدَ الاتصال بالقضية، إذ لم يعد يتم الإعلام عن شيء مطلقاً، فلا يُعرف ماذا عمل الادعاء العام، ولا ماذا تم بالنسبة لإجراءات التحقيق بالنسبة لبقية الإجراءات، وقد بدأت مشاعر المواطنين وتوقعاتهم تتحول إلى الوضع المعاكس، فبعد أن كانت الغالبية تجزم بأن الإرادة ستستمر في إجراءات القضية حتى نهايتها، وبعض الأصوات تتخوف من عدم القدرة على الاستمرار، والقلة من الأصوات تجزم بعدم الاستمرار، أصبحت الغالبية هي التي تجزم بأن الاستمرار أصبح غير وارد والبعض من الأصوات هي التي تتخوف، والقلة هي التي تجزم بالاستمرار، وكذلك فقد انعكست المسألة بالنسبة للمشاعر فبعد أن كانت مشاعر الفرح الغامر هي السائدة أصبح الحزن هو المهيمن.
الجروح مهما كانت قوتها ومهما كانت شدة آلامها فهي مع الزمن تندمل شيئاً فشيئاً، وبعضها تزول أثاره، وبعضها قد تندمل ولكن تبقى الآثار والآلام لبقاء العلل تحت الجلد مثل النار تحت الرماد، وبالنسبة لكارثة جدة في العام الماضي فبالإضافة إلى أنها من النوع الأخير، فإنه لم يمر عليها أصلاً من الوقت ما يكفي للاندمال.
وقد حصلت حالة الغرق الشديدة القوية الجديدة يوم الأربعاء الماضي ليس فقط لتفتح الجرح الشديد من جديد فهو لم يندمل أصلاً، ولكن لتعمّقه وتضاعف آلامه، والآلام مهما كانت قوية قد يمكن احتمالها إذا كان هناك إحساس بوجود مساع للمعالجة يعطي الأمل بالقضاء على أسباب المرض والألم مثلما يحصل للإنسان وهو على سرير المرض في المستشفيات يتلقى العلاج أو ينتظر عملية جراحية فهو يتحمل الألم مهما كان قوياً لأن لديه أمل، والعكس يحصل عندما يخرج المريض من المستشفى إلى منزله بعد أن تفشل محاولات العلاج ويفهم أنه لم يعد هناك أمل، فحينئذ تطغى مشاعر اليأس التي تضاعف الشعور بالآلام وتصبح كارثية.
الذي حصل ويحصل الآن للمتضررين وحتى المتابعين من المواطنين بعد غرق جدة يوم الأربعاء الماضي مشابه لما يحصل لمن يخرج من المستشفى فاقداً لأي أمل في العلاج فهو في حالة بدنية ونفسية يمكن القول عنها إنها (كارثية) فقد كان لديه أمل كبير في السابق بعد الغرق السابق بتأثير ذلك التوجه القوي بالمحاسبة والمعالجة وكان يشعر بأنه في المستشفى تحت الرعاية الطبية وكان يأمل في العلاج وفي عملية جراحية تستأصل المرض الذي يسبب له الألم الشديد ويهدد حياته، أما الآن فهو خارج المستشفى في بيته يواجه مأساته ولا يشعر بأن هناك أمل.
هذه المشاعر المأساوية لا تعني بالطبع أنها على حق، فقد تكون مبنية على مخاوف قوية، وأن الحقيقة غير ذلك، فيفاجأ المريض بأن الأمل موجود، وأنه في المستشفى من جديد، لعودة الأمل وعودة العلاج، وأن الصمت وعدم الإعلان عن إجراءات محاكمة المتسببين وإجراءات التحقيق بالنسبة للجوانب الأخرى كان لأسباب نظامية، أو أمور تتطلب السرية، أو ما شابه ذلك.
هناك قلة قليلة الآن تقول إنه لا زال هناك أمل، وهناك كثرة قد تكون فقدت الأمل وتقول إن أمراً ما قد حال دون محاسبة المسؤولين عن كوارث العروس، فهل هذا صحيح؟ أم إنه لا زال هناك أمل؟