-1-

ما هي الأيديولوجيا؟

هي – بكل بساطة – كل فكرة أو معتقد، يحاول أن ينفي الآخر، ويفرض نفسه على الناس بالقوة ـ أو بالحيلة. وإقامتها - بالتالي – مجتمعاً مغلقاً على نفسه، لكيلا تدخله أية أيديولوجيا أخرى منافسة، فتنتزع منه كافة امتيازاته السياسية والثقافية والاجتماعية والمالية كذلك. ومثاله السابق الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية السوفيتية. وتقول الفيلسوفة الألمانية حنة آرندت في كتابها (النظام التوتاليتاري) "إن الأيديولوجيا تتبنى فكرة واحدة فقط، تعتقد أنها كافية لتفسير كل شيء، وإصلاح كل خطأ، أو عيب." وهو ما ينادي به الإسلامويون الذين يرفعون شعار: "الإسلام هو الحل".

-2-

وغالباً ما تلجأ الأيديولوجيات الشعبوية إلى الدين لكي تتدثر به، لوجود شحنة انفعالية فيها، يمكن أن تتفاعل مع العاطفة التي تتميز بها الأديان. ومن هنا، يقول داريوش شايغان في كتابه عن (الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة) إن الأيديولوجيا ليست ديناً ولا فلسفة ولا علماً من العلوم، ولكنها خليط من الأفكار، والأساطير، والتاريخ، والعواطف، والتهويمات، والوعود الوردية، التي غالباً ما كانت غير صالحة للتطبيق والتنفيذ، وذهبت

أدراج الرياح. ومن هنا أيضاً، كانت أخطر الأيديولوجيات، وأكثرها سبباً في الكوارث السياسية والاجتماعية، تلك التي تحاول أدلجة الأديان، والاندساس فيها، تحقيقاً لأغراض لم تستطع هذه الأيديولوجيات تحقيقها بعيدة عن الدين. والأمثلة في العالم العربي كثيرة، منها مثلاً ما يجري الآن في السودان، كما جرى من قبل في عهد جعفر نميري، الذي أطلق عليه حسن الترابي "أمير المؤمنين". فالرئيس عمر البشير، عندما شعر بحتمية انفصال الجنوب عن الشمال السوداني، وتمَّ هذا الانفصال، نادى بتطبيق الشريعة الإسلامية

كغطاء وقشرة. كذلك فعل جعفر نميري، حين اشتد عليه اليسار السوداني، مستنجداً بحسن الترابي. فلا يجد البشير الآن، غير الشريعة الإسلامية مُنقذاً له من الغرق والهلاك. فاستفادت السياسة من الدين، في حين أن الدين لم يستفد شيئاً، بل نُظر إليه نظرة مغايرة عن السابق، من قبل مؤمنيه. فالدين، هو الذي يطهِّر السياسة، ويعيد لها قدسيتها. أما السياسة فهي التي تُضفي على الدين أيديولوجيا معينة، وتؤدلجه. فليست السياسة هي التي تتأسلم بقدر ما يتمأسس الدين، ويتأدلَج، ويلجُ الدين التاريخ، ليقاتل الكفرة - في رأي الدينيين/السياسيين – أي الأيديولوجيات المنافسة، كما يقول شايغان.

-3-

كذلك الحال على نطاق واسع في العالم العربي. فنرى أن أدلجة الإسلام فيما يعرف بـ "الإسلام السياسي" أصبحت موجة عريضة وعارمة في العالم العربي، وخاصة بعد ثورة الخميني عام 1979. فقامت في العالم العربي عدة حركات وجماعات وأحزاب دينية مؤدلَجة، تابعة في الدرجة الأولى مالياً وسياسياً لإيران. فرأينا حزب "الدعوة" الإسلامي العراقي (أمينه العام نوري المالكي) الذي حكم العراق ست سنوات مضت (2004-2010) وسيحكمه خمس سنوات أخرى (2010-2015) ولا داعٍ لشرح ارتباطات وعلاقات هذا الحزب بإيران، فهي معروفة وواضحة. وكذلك الأمر بالنسبة لـ "حزب الله" في لبنان، و "حركة "حماس" في غزة، وحركة "النهضة" في تونس الآن، وأخيراً جماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، وارتباط حركة "حماس" و حركة "النهضة" بها، وبالنظام الإيراني كذلك. وهكذا نرى، أن العالم العربي يواجهه الآن تهديد حقيقي، ليس بفعل قواعد الاستعمار العسكرية المحتملة، وليس بفعل التهديد العسكري الغربي المحتمل، وليس بفعل سطوة الأحزاب الشيوعية، وليس بفعل الأحزاب القومية، ولكن بفعل عمليات أدلجة الدين، ونشوء أحزاب وجماعات دينية/سياسية استطاعت أن تصل إلى الحكم كـ "حماس" في الأمس، واليوم "حزب الله"، وربما غداً "حركة النهضة" في تونس، بالاتفاق مع "حزب التحرير" الإسلامي التونسي، وكذلك "جماعة الإخوان المسلمين" التي تآلفت مع حزب "الوفد" في الأمس في الانتخابات التشريعية المصرية 2010، وسقطت سقوطاً مدوياً، وخرجت خاسرة للانتخابات مع حزب الوفد، واليوم تقود حركة "غضب" في مصر مع حزب "الوفد" أيضاً، انتقاماً من النظام السياسي القائم، ومن "الحزب الوطني" الحاكم، للخسارة المدوية التي مُنيت بها في الأمس.

-4-

هناك خطأ – حسب شايغان – يقع فيه المؤرخون والمحللون السياسيون حين يطلقون على حركة الخميني في إيران عام 1979 "ثورة"، ويقولون: "الثورة الدينية" في إيران. فهناك تناقض حاد وخطير بين الإسلام، وبين الثورة. فالثورة توحي لنا بالثورة الفرنسية الأميركية، وعصر الأنوار، وفلاسفته، ومفكريه، وإعلان حقوق الإنسان...إلخ. أما الإسلام فهو يذكرنا بالتسليم لإرادة الله، وبالقرآن الكريم، وبالوحي، والنبوة...إلخ. ومن هنا، فإن الثورة والإسلام، ليس بينهما أي رابط - على حد تعبير شايغان – فهما "يتحركان في مدارات مختلفة. وليس لهما أي نقاط ارتكاز، ولا المحور المركزي نفسه، الذي تنتظم حوله الأفكار المرتبطة بهما، إذ تحيل نقاط الارتكاز هذه على مضامين مختلفة ومتناقضة."

ويؤكد شايغان في كتابه، أن اختلاف الإسلام عن الثورة ليس مجرد اختلاف في الآراء والمناهج، وإنما هو اختلاف جوهري. إنه اختلاف كوكبين متعارضين. وما "الثورة الدينية"، التي يتحدث عنها قادة وعناصر الإسلام السياسي – وخاصة في إيران - ما هي إلا أيديولوجية سياسية بامتياز. وهي لا تتعدى أن تكون تمسحاً بأطراف الإسلام، وقشرة يستعملها حكام إيران لكسب شرعيتهم، وغطاء دكتاتوريتهم، وبالتالي تتحول إلى أسطورة سياسية.

-5-

إن اللعب بكرة الأيديولوجيا على أرض الدين، وعلى النحو الذي يجري الآن في العالم العربي، وخاصة في لبنان، والسودان، وتونس، ومصر، وغيرها، سوف يكون له عواقبه الوخيمة، وقد تتيح للغرب لكي يفكر من جديد بضرورة احتلال مواقع عسكرية له في هذه البلدان، حماية للأقليات الأخرى، وحماية لمصالحه المختلفة، وتلك هي الطامة الكبرى.