سعدت بصحبة جمع من الزميلات والزملاء بدعوة كريمة من رئيس شركة الزيت العربية السعودية "أرامكو"، المهندس خالد بن عبدالعزيز الفالح، لزيارة الشركة والاطلاع على نشاطاتها التشغيلية. وكانت الزيارة درسا تثقيفيا لي ـ في الأقل ـ للتعرف عن قرب على هذه الشركة الوطنية العملاقة التي تدير بكفاءة العمود الفقري لاقتصادنا الوطني.
سأكتفي هنا بالحديث عن مظاهر محدودة تلفت انتباه الزائر لأرامكو. وأهمها الحضور البارز للسعوديين والسعوديات الذين يمثلون نسبة عالية جدا من منسوبيها، ويشتغلون في مرافقها كلها من أقلها تطلبا للمهارة إلى أكثرها تطلبا للعلم والمهارات الفنية والإدارية. وهذا ما يشفي من الانطباع الشائع بأن المرأة والرجل السعوديين ينفران من الانضباط ويأنفان من العمل.
قابلنا عددا كبيرا من السعوديين والسعوديات الذين يتميزون بمعارف علمية بالغة الدقة عن كل ما يتعلق بصناعة النفط. وقد عرض أحد الخبراء السعوديين معلومات مهمة عن احتياطات المملكة الهائلة من النفط والطرق العلمية الحديثة جدا لتقديرها والطرق العلمية الدقيقة المتسخدمة في استخراجه ومراقبة إنتاجه من مكامنه الأرضية المتشعبة البعيدة حتى يصل إلى أماكن تجميعه الضخمة.
وتعقيبا على ذلك سألته سؤالا مفاده أن هذه العمليات التطبيقية التقنية المعقدة تتطلب أن تقوم على دراسات نظرية معمقة في الكيمياء والفيزياء والجيولوجيا، فمن أين تحصل الشركة على تلك الدراسات وكيف تقوِّمها قبل تطبيقها؟ فأجاب بأن الشركة تمتلك مراكز أبحاث متقدمة متنوعة عديدة في موقعها في المملكة ويعمل فيها مئات الباحثين المتخصصين في كل ما يتعلق بالنفط، وأكثرهم من السعوديين. ومما يدل على الخبرات الواسعة التي يتمتع بها أولئك الباحثون أن أبحاثهم تتصدر الدوائر العلمية المتخصصة في العالم، وتفوز لسنوات متوالية بالتقدير والتمييز.
وتحرص الشركة على اختيار أفضل من يتقدم لها من الطلاب والطالبات، بعد الثانوية وبعد الجامعة، فتدربهم علميا ومهنيا وسلوكيا وتبتعث منهم أعدادا كبيرة ليعودوا إليها مؤهلين يحافظون على مستوى جودة العمل الذي تتميز به.
ومن الدلائل الأخرى على تميز الإنسان السعودي إذا درب وقدِّر وهيئت له البيئة العملية الحافزة تولي شباب لا يتجاوز كثير منهم الثلاثين من عمره إدارة عمليات تشغيلية بالغة الدقة. وبعض هؤلاء الشباب ولد في خيمة. وتتميز الشركة بحق، ومنذ إنشائها، بأنها مصهر وطني تذوب فيه الفوارق المناطقية والقبلية والمذهبية ليحل محلها الانتماء للوطن والشركة والعمل. ويعمل كثير من هؤلاء الشباب في مواقع بعيدة عن أهليهم ويضطرون إلى الغياب عنهم أياما، كما هي حال الذين يعملون في حقل "الشيبة" العملاق في الربع الخالي. ومن اللافت أن هؤلاء يعملون اثني عشرة ساعة يوميا، مما لا يكاد يصدقه من أَلِف القول بأن السعوديين مبتلون بالكسل وعدم الانضباط والنفور من الالتزام بقيم العمل.
وليس هذا الانضباط مقصورا على الشباب؛ ذلك أن الشركة تستقطب أعدادا كبيرة من السعوديات يعملن في المجالات كلها من غير استثناء. فيعمل بعضهن مهندسات، وبعضهن في الفروع العلمية الأخرى المتصلة بإنتاج النفط كالكيمياء والفيزياء، وغير ذلك.
وتمثل المرأة السعودية التي تعمل في أرامكو نموذجا مشرفا من حيث الالتزام بالحشمة والانضباط في العمل والثقة بالنفس. وهذا ما يمكن أن يكون حافزا للإدارات الحكومية والشركات الوطنية لتوظيف المرأة السعودية القادرة على الإبداع في المجالات كلها التي يمكن للرجل أن يعمل فيها بعيدا عن المحاذير الموهومة الشائعة.
وربما يتوقع من لم يخالط منسوبي أرامكو أنهم لا يتكلمون إلا باللغة الإنجليزية ولا يتحدثون إلا عن قضايا النفط التقنية والعلمية والاقتصادية. لكن المفاجئ أن أكثر من رأيته منهم يجمعون إلى ذلك كله اطلاعا واسعا على الأدب والتاريخ، ويقرأون بوعي المصادر الإسلامية الفكرية القديمة والحديثة، ويتابعون الحراك الثقافي في المملكة والعالم العربي.
ويكفي مثال واحد كنت شاهدا عليه قبل سنتين. وكان ذلك في حفل الشركة بمناسبة مرور خمسين سنة على صدور مجلة القافلة. ففي ذلك الحفل أبان رئيس شركة أرامكو السابق المهندس عبدالله جمعة عن معرفة نقدية واسعة وذائقة رفيعة بالموسيقى الكلاسيكية التي كان يعزف مقطوعات منها في الحفل أحد الشباب السعوديين من منسوبي أرامكو. وهو إلى جانب ذلك يحفظ الشعر العربي بإتقان يشهد به إلقاؤه الأخاذ لقصيدة الصّمّة القشيري الرائعة التي منها:
بروحيَ تلك الأرض ما أطيبَ الرُّبا
وما أطيب المصطاف والمتربّعا
وأذكرُ أيـّـامَ الحـِمى ثم انثني
على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا
وليست عشيّاتُ الحمى برواجعٍ
إليكَ ولكن خـلِّ عينـيك تدمعا
كأنــّا خُلقنا للنـّـوى وكأننا
حرامٌ على الأيـام أن نتجمّـعا
ويشهد باهتمام الشركة الثقافي المشروع الضخم الذي تنفذه بمسمى "مركز الملك عبدالعزيز الثقافي"، وسيفتتح في العام القادم. وهو يضم مكتبة ضخمة وقاعات للعروض المسرحية والسينمائية والمحاضرات ومكتبات حاسوبية ومراكز للبحث ونشاطات علمية موجهة للشباب والشابات والأطفال، وحدائق للتنزه، وغير ذلك من فنون المعرفة والترفيه التي ستتاح للجميع.
وللشركة نشاطات متعددة في خدمة المجتمع؛ ومن أهمها دراسات علمية للسلامة المرورية في المملكة التي يؤدي عدم الالتزام بها إلى كثير من الخسائر في الأنفس والأموال. ومن مشاريعها المهمة الأخرى دراسة الوسائل التي يمكن بها معالجة الهدر الهائل للطاقة في بلادنا. وهو الذي ربما يحول المملكة إلى مصدر ثانوي للنفط إذا لم يتدارك.
وربما كان من أسباب نجاح الشركة لأكثر من ثلاثة أرباع القرن أنها تقوم على تنظيم وقت منسوبيها. فمن الظواهر اللافتة أن العاملين فيها ينامون مبكرين جدا لينهضوا في الصباح الباكر ويتوجهوا إلى أعمالهم نشطين. ويبدو أن غياب هذا الانضباط واستمراء السعوديين للسهر هو السبب في القضاء على بركة الوقت. ذلك أن من لا ينظم وقته، خاصة وقت النوم، يقضي نهاره وليله متعبا كسولا ضيق النفس فاقدا للتركيز. وهذا ما سينتج عنه قلة الإنتاج وفقدان سلام النفس.
كم أتمنى أن تقوم هذه الشركة الوطنية العملاقة بـ"غزو ثقافي" لمجتمعنا لنتحول كلنا إلى "أرامكييِّن" نتعلم منها الانضباط وحب العمل والنوم مبكرين والاستفادة من الوقت إلى أقصى حد لنعود إلى طبيعتنا التي فقدناها في العقود الأربعة الماضية بسبب تخلينا عما كان عليه آباؤنا من حب العمل وعدم الركون للكسل.
شكرا جزيلا للمهندس خالد الفالح على كريم دعوته، وعلى المستوى الرفيع الذي تميز به استقباله لنا وإجابته المهنية الدقيقة عن تساؤلاتنا الكثيرة المدفوع بعضها بالتشكك والخوف من المصير الذي ينتظرنا لو نفد النفط! وشكرا مستحقا للعاملين جميعا في هذا المرفق الوطني الهام، وأخص أولئك الأصفياء من منسوبي الشركة الذين رافقونا طوال الرحلة وجعلوها أكثر فائدة وبهجة.