ليس من شك في أن من أهداف زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، هو قطع الاتصال بين مشرق الوطن العربي ومغربه. وقد بدأت النوايا تتضح منذ احتلال نابليون لمصر، وإطلالته على شبه جزيرة سيناء. وقد رأى البريطانيون في الاستيلاء على هذه المنطقة تأميناً للطريق لدرة التاح البريطاني. وكان مؤسس الحركة الصهيونية، هرتزل قد أشار في رسائله إلى الأوروبيين، إلى أن قيام كيان يهودي على أرض فلسطين سيشكل سداً قوياً بين المدنية والبربرية، ويحمي المصالح الأوروبية.
لقد أكدت مسيرة ما يقرب من قرن من الزمن، منذ الإعلان عن وعد بلفور الذي وعد الصهاينة بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، أن المشروع الصهيوني في فكرته والتحضير له ونشأته هو مشروع غربي بامتياز. وأنه لم يستهدف فلسطين وحدها. فقد أريد أن تكون فلسطين قاعدة الانطلاق للعدوان على العرب. وخلال عقود طويلة، أثبت الكيان الغاصب بسلوكه، عبر اعتداءاته المتكررة، من بغداد إلى تونس صحة ذلك. وقد وصلت ذراع الموساد وشبكات التجسس “الإسرائيلية” إلى معظم البلدان العربية، مؤكدة بأنشطتها خطورة استمرار هذا الكيان على الأمن القومي العربي، واستقرار المنطقة بأسرها، من دون استثناء، بما في ذلك البلدان التي وقعت معاهدات ثنائية مع "إسرائيل".
وضمن اعترافات قادة أجهزة الموساد، وما تكشف عن أنشطتها، تأكد أنها عملت على العبث بالأمن والاستقرار في سوريا ومصر ولبنان والأردن والعراق والسودان وبلدان عربية أخرى. وخلال العام المنصرم، نفّذ عملاء الموساد عملية اغتيال القيادي في حركة "حماس" محمود المبحوح في مدينة دبي، وقد تمكنت أجهزة الأمن فيها من الكشف عن خيوط العملية وفضح ملابساتها .
لم يقتصر دور الموساد بالبلدان العربية، على كشف الأسرار وجمع المعلومات، واغتيال القادة والمقاومين الفلسطينيين، بل عملت أجهزته في التحريض على التفتيت وزرع الفتنة في البلدان العربية، واستثمار التوترات الطائفية والعرقية والصراعات القبلية لإضعاف تماسك وحدة الدولة الوطنية بهذه البلدان .
في جمهورية مصر العربية، التي مضت ثلاثة عقود على توقيعها معاهدة صلح مع “إسرائيل”، أنهت حالة الحرب، وأقيمت علاقات دبلوماسية وسياسية واقتصادية، تم الكشف مؤخرا عن عدد من شبكات التجسس “الإسرائيلية”، بما يؤكد استمرار النظرة الصهيونية لمصر، كدولة معادية، وسريان مفهوم الأمن “الإسرائيلي”، الذي يتعامل مع البلدان العربية مجتمعة، بوصفها محيطاً معادياً ينبغي ضربه واختراقه، وزرع الفتن فيه، والقيام بعمليات الاغتيال والتخريب الاجتماعي والاقتصادي والمعنوي، والعمل على تفتيت وحدته الوطنية.
لقد تمكنت أجهزة الاستخبارات المصرية من الكشف عما يقرب من 30 شبكة تجسس "إسرائيلية" في مصر، منذ تسعينيات القرن المنصرم. ومن بينها، القبض في عام 1996 على عزام مصعب عزام، الذي حكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً. وبقي هذا الجاسوس محط اهتمام قادة العدو الصهيوني، حيث تدخل لإخراجه من السجن ثلاثة رؤساء وزارة صهاينة . وخرج من السجن بعد مرور ما يقارب ثمانية أعوام على حبسه، بعد إلحاح الإدارة الأمريكية للإفراج عنه .
لقد جاء الكشف الأخير، عن شبكات التجسس "الإسرائيلية" في مصر، بعد فترة وجيزة من كشف أجهزة الأمن اللبناني عن شبكة تجسس مماثلة، من بين أعضائها ضابط متقاعد، مقرّب من الجنرال ميشيل عون رئيس التيار الوطني الحر في لبنان. إضافة إلى إعلان الجيش اللبناني في ديسمبر الماضي عن تفكيك أجهزة تجسس "إسرائيلية"، هدفها تصوير وتحديد أهداف أرضية، وإعلان الجيش اللبناني، عن تفجيره جهازي تنصت في المنطقة الحدودية مع "إسرائيل". ولا تستبعد أجهزة الأمن اللبنانية ضلوع "إسرائيل" في عمليات الاغتيال التي جرت في السنوات الماضية، من أجل خلخلة التركيبة الاجتماعية اللبنانية، وإشعال نيران الفتنة الطائفية والمذهبية، وإعادة شبح الحرب الأهلية .
في العراق، تتحدث أنباء عن وجود شركات صهيونية تعمل بتسميات استشارية، ومقاولات، ومراكز أبحاث، لمصلحة الموساد "الإسرائيلي"، وتلعب درواً رئيساً في التصفيات المستمرة للعلماء العراقيين، التي بدأت إثر احتلال العراق عام،2003. كما تتحدث أنباء عن دور للموساد لدعم قيام دولة كردية مستقلة في شمال العراق، وإثارة التنظيمات الكردية الانفصالية في تركيا، ودعم إمكانية قيام دولة كردية في جنوب تركيا. وقد سبق أن استدعت الخارجية التركية السفير "الإسرائيلي" في أنقرة، وسلمته رسالة احتجاج حول تدخل جهاز "الموساد" في الشؤون الداخلية التركية .
وخلال اعتقالات ديسمبر لشبكات تجسس "إسرائيلية" في مصر، قدم المتهم بالتجسس لحساب الموساد، طارق عبد الرزاق معلومات تؤكد استهداف الموساد لمصر وسورية ولبنان. ولا شك في أن الكشف عن ذلك قد وجه ضربة قوية "للإسرائيليين". على أن ذلك لن يكون نهاية المطاف، فسوف تستمر "إسرائيل" في محاولة إشاعة الفوضى بالمنطقة.
ويبدو أن نزيف التفتيت والخراب الذي يقوده الموساد، بدعم من قوى الهيمنة العالمية سوف يتواصل، ما لم تتم مواجهته عربيا، على عدة جبهات داخلية وعربية وإقليمية. فعلى صعيد الداخل لا مناص من تحصين مجتمعاتنا العربية، من محاولات الاختراق، ولن يتحقق ذلك إلا ببناء دولة المؤسسات، وقيام أنظمة سياسية تستمد مشروعيتها من التسليم بمفهوم المواطنة، وتشييد مؤسسات المجتمع المدني، والنأي عن سياسة الإقصاء والتصدي للفساد، بمختلف أوجهه، وتأسيس نظام اجتماعي يستند على العدل والندية والتكافؤ .
وعلى الصعيدين الرسمي والشعبي، ينبغي إعادة قراءة المشروع الصهيوني، من منظور جديد، باعتباره مشروع حرب يستهدف الأمة بأسرها. وذلك يقتضي العمل على إعادة صياغة الصراع، من الرؤية التقليدية، التي سادت منذ منتصف السبعينيات، والتي انطلقت من إمكانية التعايش مع هذا المشروع، إلى رؤية جديدة تسعى لتحصين المجتمع العريي من الدسائس. ويبنغي أن يكون للعلماء والمفكرين، والجامعات ومراكز البحث العلمي، دور بارز في تفكيك الظاهرة الصهيونية، وصياغة رؤية علمية للتعامل معها، من أجل صيانة المجتمع، وحماية الأمن العربي، صياغة تنطلق من رؤية قوامها أن الصراع مع الصهاينة، ليس حيال أراض متنازع عليها، بل صراع وجود .