هكذا إذن.. طبيبة المدينة الأربعينية التي رفعت قضية تطالب برفع وصاية والدها وتمكينها من الزواج الشرعي وهو حتى يكافئها نسباً (للمهتمين بنقاء العروق) ولتتمكن من اللحاق بالفرصة الأخيرة لتكون أماً.. لم تكن سوى ابنة عاقة تريد الخروج عن طاعة والدها الطيب.
لا لم يشفع لها علمها ولا دينها ولا عمرها ولا استقلالها المالي ولا حقيقة وجود عدة أخوات من نفس الأب في سن الزواج محرومات منه لدى القاضي ليستفتِ قلبه وعقله والشرع الذي يُفترض أن يحكم به من أجل أن يمنحها هذا الحق الفطري والاجتماعي والديني.
يقولون بأن للقضية "ملابسات" لا نعرفها، وأن لدى القضاة قرائن نجهلها، وأن الصحف تكذب، وأن هناك حملة تغريبية وعلمانية وليبرالية تستهدف القضاء الإسلامي في بلاد التوحيد، حسناً، سنصدقكم بشرط أن تشرحوا لنا ماذا يجري هنا؟ اعتبروه من باب تفقيه الناس في دينهم والذي هو ـ كما درستمونا ـ فرض عين على كل مسلم ومسلمة، وكلنا آذانٌ صاغية.
اشرحوا لنا ابتداء إن كنتم تعتقدون بأن المرأة كائن حي ومن صفاته أنه يأكل ويشرب ويتنفس ويتزاوج ويربي صغاره للحفاظ على النسل فإذا كان الجواب بنعم، فلم إذن تُحرم من هذا الحق دون وجود سبب معقول.. بالنسبة لنا نحن الدهماء والعامة على الأقل؟
وضحوا لنا أيضاً كيف تنطبق قاعدتكم المفضلة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" هنا؟ أية مصلحة تتحقق حين يحال بين المرء والطريقة المباحة لإشباع غرائزه في ظل الفساد المتفشي في هذا الزمان؟ كما نريد أن نفهم ـ صدقاً ـ الحكم الفقهي فيما لو أن إنساناً، بغض النظر عن جنسه، مُنع من الزواج منعاً باتاً ثم أقدم على الفاحشة..هل يُقام عليه الحد؟
سيدي الفقيه/العالم/الشيخ/الإمام/ طالب العلم/المحتسب/.. هل تعلم أن للمرأة أيضاً شهوات ورغبات كما للرجل وأنها لا تتزوج فقط للستر والنفقة ولأنها تحتاج محرماً وسائقاً وُمعرِّفاً وحامياً ولكي تصبح أماً، فهي تريد كل ذلك طبعاً، ولكنها تريد وتحتاج الزواج لذاته أيضاً.. جسدياً ومعنوياً؟ فكيف توفقون ـ يا رعاكم الله ـ بين مباركتكم لعضل النساء واهتمامكم بتحصين الرجل ومراعاة شهوته بحيث أجزتم نكهات متعددة من الزواجات، بالإضافة إلى الزواج العادي المتعارف عليه، مثل زواجات المسيار والمسفار والفريند والنهاري والليلي والصيفي والشتوي؟ كما أن بعضكم عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة الأرضية والفضائية في التذكير بسنة التعدد وكيف أن فيها مصلحة البلاد والعباد.. وأن امرأة واحدة لا تكفي لنسبة لا يستهان بها من رجال.. فكيف يحق لرجل أن تكون له أربع نساء مراعاة لحالته في حين يحرم كثير النساء من أن يكون لها ربع رجل؟
نفهم تماماً بأن المذهب المعمول به في بلادنا لا يجيز النكاح إلا بولي، ولكننا نعرف أيضاً بأن هذا الولي يمكن أن يكون فاقداً للأهلية، وعدالة الشريعة لم تجعل المرأة أسيرة لأمثال هؤلاء بل أباحت لها أن ترفع للقاضي أمرها فيصبح هو وليها ويسمح لها بالزواج بعد أن يستمع لها ويدرس حالتها، أفلم يكن هذا ما فعلته طبيبة المدينة.. كيف صارت "عاقة" إذن؟ ملف القضية بالنسبة لنا (نحن الجهلاء والدهماء والعامة) واضح: امرأة راشدة عمراً وعلماً، وترغب في الزواج، فحرمت منه، وتعرضت لضرب وإذلال، فهربت لدار الحماية التي تقيم فيها رغم إمكاناتها المادية منذ عشر سنوات، وتقدم لها خطاب أكفاء (من نفس قبيلتها واختلاف الفخذ) فلجأت للقاضي تريد الحرية والستر.. فلماذا تم الرفض؟ ثم لماذا بدلاً من ذلك تعاقب ليس فقط بضياع بقية عمرها في الوحدة والحرمان وإنما بالحكم بعقوقها (والعقوق كبيرة عظيمة) وبتسليمها لوالدها؟
مقالي ربما يصنفه المتحمسون والمتعصبون ضمن الحملة المشبوهة ضد القضاء الشرعي، والحقيقة الساطعة هي أن جل من تستفزه هذه القضايا هم أولئك الذين يؤمنون بأن الإسلام دين ومنهج حياة، وهو صالح لكل زمان ومكان، وأنه ليس ثمة دستور أعدل من شرع الله، لأن هذه القضايا تأتي كهدايا على أطباق من ذهب لكل من يريد فصل الدين عن الدولة، ولكل من ينادي بحقوق الإنسان كما رأتها السيدة "إلينور روزفلت" وليس كما قررها نبي الأمة الإسلامية. قضية طبيبة المدينة ـ فرج الله عنها ـ ليست إلا حلقة في مسلسل العجب من طلاقات النسب، وفتاة القطيف وأخواتها في المدن الأخرى، وقضايا العنف الأسري، والتي ناهيك عما وقع فيها من ضرر على أطراف القضية، قد فتنت البعض في دينهم، فنحن إذ نكتب عنها لا ندافع عن شخوصها وأفرادها بعينهم فقط، وإنما ندافع عن الشريعة الإسلامية التي باتت تُلمز بالنقص والإجحاف ففي صفوف المدرسة الابتدائية علمونا حديث تغيير المنكر.. فنحن ننكره باللسان.. فمن يملك تغييره بالفعل؟