يبدو أن كثيرا من دول المنطقة التي تقدم ذاتها على أنها دول ديموقراطية وجمهورية، مرشحة للمزيد من تردي الأوضاع وتصاعد أصوات التذمر والغضب في أوساط مواطنيها، لكن ذلك الاحتجاج لا يتصاعد فقط للمطالبة بإجراء انتخابات حرة ونزيهة أو تفعيل للمشاركة السياسية ولا حتى للمطالبة بفرص عمل أو للاحتجاج على غلاء المعيشة، إنه في الواقع احتجاج على الدولة التي فقدت هويتها وشرعيتها، نتيجة إعلانها خلاف ما تعيشه، إذ تنشغل تلك الدول باستمرار بتوجيه مختلف مؤسساتها لتحقيق هدف واحد هو تمرير تلك المفارقة بين دولة ذات مسمى ديموقراطي وواقع استبدادي لا علاقة له بالديموقراطية، واستحالة استمرار الدولة الديموقراطية المزيفة لا تقل عن احتمال وجود الدينية الكهنوتية في زمن الدولة القطرية الحديثة. وهي من أشكال المفارقات التي لا تصمد كثيرا أمام الواقع والمستقبل.
إذن نحن أمام كيانات سياسية عربية فقدت قيمتها وذاتها وشخصيتها، ولم يعد لها من صفة الجماهيرية والديموقراطية سوى مجرد شعائر، تصبح معها كل مؤسسات الدولة منشغلة بتمرير ذلك التناقض، وبالتالي تضل التنمية طريقها ويضل الاستقرار طريقه، وتصبح الدولة مجرد وسيلة للدفاع عن بقاء الحزب الحاكم الذي فقدت مبررات وجوده الانتخابي، وتصبح المؤسسات مجرد أدوات تعمل على طمس سؤال الشرعية وإبداله بسؤال الأمن وبابتكار كل ما يعزز سيطرة الحزب والفرد.
إذن لم يعد المحور هنا هو الدولة، بل أصبح الحزب الحاكم، وهي حالة يظهر فيها مدى الانحراف الذي خرج بالدولة عن قيمتها الفعلية لتصبح مجرد مساومة بين نخبة حاكمة يمثلها الحزب وشعب يعيش حالة من الترقب والقلق والتذمر.
بالمقابل، لا تعيش الحكومات الملكية ولا الأميرية العائلية أيا من تلك الأسئلة، ذلك أنها لا تتواجه مع أزمة تحديد الهوية السياسية للكيان ولا يمثل ذلك بالنسبة لها أي تحد، فهي دولة ملكية لديها رؤيتها وواقعها للدولة ولطريقة الحكم والمشاركة والتنمية، مما يعني أن جميع المؤسسات يفترض بها أن تؤدي دورها الذي وجدت من أجله، لذلك يصبح العمل التنموي والسعي للاستقرار والرفاه هو التوجه الأغلب لدى تلك المؤسسات، إلا أنها دول تواجه باستمرار تحديا لقدرتها على صياغة خطاب وطني مدني.
في التجربة السعودية بإمكاننا قراءة الملامح الفعلية لتلك المعادلة التي يعيش فيها الناس مع القيادة الحاكمة حالة من الاتفاق على الأهداف وعدم الالتفات لأسئلة الشرعية وهوية الكيان، لكن إرباكا واحدا يصارع من أجل إيجاد حالة اختلاف واسعة بين الكيان وقيمه الوطنية وبين الناس وإيمانهم به، يتبدى ذلك في التوصيفات التي تسعى لحصار الدولة بأنها دولة دينية.
المملكة العربية السعودية دولة إسلامية وليست كيانا دينيا، وهذا أحد أبرز العوامل التي منحتها تلك القوة والمكانة والتأثير في العالم، وأبرز عوامل تماسكها الداخلي، خاصة أنها ونظرا لكونها دولة حديثة تقوم على تعددية مذهبية وقبلية ومناطقية، استطاعت أن توحدها المؤسسة السياسية التي أدارت طموح الوحدة وحققته معجزة حضارية باهرة، واستطاعت أن تقيم كيانا يستند في شخصيته إلى قيمه الثقافية الإسلامية والعربية، ويستند في بناء مستقبله إلى تحفيز الاستقرار الذي يعيشه وإلى المؤسسات التي تدير الحياة العامة.
الدولة الدينية في واقعها، تعيش أزمة لا تختلف عن أزمة الكيانات التي تسمي نفسها ديموقراطية جماهيرية بينما تعيش واقعا لا علاقة له بتلك التسمية، فالدولة الدينية تسخر كل مؤسساتها لا من أجل الكيان الوطني الذي تحميه بل من أجل الدين، وبما أن الدين لا حدود له جغرافيا ولا سياسيا يصبح موقفها من بقية الكيانات عبارة عن إشكالية مستمرة ودائمة، إضافة إلى أن الدولة الدينية لا يمكن أن تكون دينية عامة، بمعنى أنها لا تتسع إلا لطيف واحد وتوجه ديني واحد، وهو ما لا يسمح فيها بوجود أقليات أو تنوعات طائفية أو مذهبية، كما أن التنمية في الدولة الدينية لا تعبأ بمعايير النجاح والتقدم والازدهار التي لا تخدم كهنوتها، وكل ذلك بالنسبة لها مما لا قيمة له، بل تتجه الوزارات والمؤسسات في الدولة الدينية من دورها الوطني إلى أدوار أخرى فلا يصبح من مهام وزارات التربية والتعليم أن تخرج مواطنين قادرين على العمل والإنجاز بقدر ما تسعى لتخريج مؤمنين، ويصبح دور الوزارات العسكرية إعداد مجاهدين وليس إعداد قوى دفاع وطنية عسكرية.
إن كل الكيانات لا يمكن أن تحافظ على بقائها ما لم تحدد هويتها، وهو ما يمكن قراءته إيجابيا في الدولة الإسلامية، والتي يمثل الإسلام بالنسبة لها هوية تنطلق منها في بناء واقعها، وتحتفي بما تعيشه من تعدد وتنوع وتسعى لإيجاد موقع لها في العالم من خلال هويتها تلك.
إن الواقع في السعودية، وهي دولة ليست إسلامية فحسب، بل رائدة العالم الإسلامي يوضح أن النموذج الأمثل الذي يمكن أن يستمر وينمو بتطور وانسجام واضح بين قيادته وبين مواطنيه هي الدولة المدنية، التي تجعل من ثقافتها قيمة قابلة للإحياء والتطوير ومسايرة الإيقاع الحضاري للعالم.
في زمن الدولة القطرية الآن لا مكان للدولة الدينية بالمفهوم الكهنوتي، ذلك أن الدين لا حدود له ولا يمكن حصر رعاياه ولا تحديد أهدافه ولا امتلاكه ولا ادعاؤه، الأمر الذي يؤدي إلى ادعاء مشوهٍ لهوية لا يمكن تحديدها، ويدخل الكيان في أزمة تتمثل في سعيها لإثبات حقها في الوجود كدولة قطرية حديثة في زمن حديث.
إن قراءة سريعة لواقع التنمية والاستقرار في المنطقة العربية تشير بوضوح إلى أن الكيانات الملكية أكثر استقرارا ونموا وازدهارا من غيرها، وذلك لأن واقعها السياسي واضح ومتصالح مع الناس الذين باتوا شركاء في مستقبل الكيان، يحدث ذلك لأنها دول حددت هويتها وآمنت بمدنيتها واحتفظت بثقافتها، لكن كل حركات الممانعة الداخلية كالتي تحدث لدينا محليا ليست من أجل توظيف الكاشيرات فقط، ولا من أجل حضور الطالبات صغيرات السن لسباق الفروسية، بل هي ممانعة على شكل الكيان وهويته الوطنية. وهي هوية بات من الواضح أنها قادرة على الصمود والانطلاق.