التستر سبب قوي للبطالة، وهيمنة الأجانب على تجارة التجزئة التي هي الحل الأمثل والأسرع لحل أزمة البطالة وتدريب القوى العاملة السعودية من على رأس العمل، وضخ قيم العمل وأخلاقياته في شباب لم يعملوا منذ أن تخرجوا من مدارسهم وجامعاتهم.

هذه الفكرة التي طرحتها مفصلة في مقال سابق، استفزت القارئ "ياسر" – لم يذكر اسمه الكامل- وقال إن القضاء على التستر بهذا الشكل "العاطفي والحماسي سيؤدي إلى أزمة اقتصادية كبيرة"، وفوضى في السوق، وبطالة "المتسترين" وليته قال "قطع أرزاقهم" فهم في بطالة طفيلية إذ لا يعملون وإنما يتسلقون كشجر اللبلاب على اقتصاد الوطن حتى يخنقوه، ثم تحدث عن "انهيار إيجارات معظم الأسواق والمجمعات التجارية والمحلات وخلو معظمها حيث إن الأسواق ستصبح خالية".

نعم سيحصل هذا وأكثر، عندما تفعل الدولة أنظمتها حبيسة الأدراج ضد التستر، ولست بحاجة إلى إحصائيات للقول إن جل تجارة التجزئة في البلاد والتي تشكل لدى غيرنا نواة "الأعمال الصغيرة والمتوسطة"، وهو قطاع أساسي في الاقتصاديات الوطنية وصانع مهم للوظائف، إنما هي ضرب من ضروب التستر.

هذه الفوضى التي يخشى منها المواطن هي الحل، والتي سأسميها "الفوضى الخلاقة".. تعبير مزعج ذلك أنه ارتبط باليمين المحافظ الأميركي، الذي استخدمه في تبرير أخطائه "المتعمدة" في العراق، والتي زعموا أنها ستولد عراقاً سعيداً.

أعترف أنه تعبير سلبي، ومن يبحث عما كتب عنه من مقالات وأبحاث لن يتحمس له، ولكن معظم ما كتب كان عن الأميركيين والعراق، ولكني أزعم أن ثمة قلبا محبا للمملكة ورحيما بالعاملين فيها لدى "اليمين السعودي المحافظ" الذي نحتاجه لعلاج أكبر تحد يواجه البلاد وهو البطالة، ومعها عادة الاعتماد على العمالة الأجنبية في كل طبقات العمل والتي شلت طموح الشباب وفرص العمل وقيمه.

لقد جربنا كل الحلول الممكنة، ولا نزال، وبالرغم من ذلك لا نرى نورا في نهاية النفق، وإنما تفاقماً للمشكلة والتي يشارك "الزمن" في تعميقها وتسريبها إلى مناح أخرى في الحياة، اجتماعا وسياسة وأمنا.

نعم إن اتخاذ قرارات حاسمة لمنع التستر، وتجريم ممارسيه سيؤديان إلى "فوضى" في السوق والخدمات، حتى لو كانت القرارات متدرجة أو أن تبدأ من منطقة دون أخرى، أو أن تقتصر على قطاع تجاري دون غيره.

وسوف تحدث إشكالات قانونية بين المتستر والمتستر عليه، وبين المتستر والموردين الذين لا يعرفهم، سيتحمل ديونا، ستشغل المحاكم ووزارة التجارة والعمل، بل قد تحتج دول على ما سيصفونه "ظلم" رعاياها، وسوف يشتكي مواطنون من نقص في الخدمات وشح في السلع عطل حياتهم ومشاريعهم، إضافة إلى ارتفاع الأسعار. سيستمر هذا لعدة أشهر، ولكن يجب أن نحتمل، ولا نقلق، سيتكيف السوق، سيعوض ما حصل من نقص، سيجد شباب سعوديون فرصة يغتنمونها مستفيدين من رعاية الدولة لهم وتشجيعهم.

إن لاقتصاد السوق سننا أودعها فيه الله ـ سبحانه وتعالى ـ تمكنه من التحول السريع والاستجابة للمعطيات الجديدة وفي وقت قصير إذا أحسنا التدبير والتخطيط، كثير من الدول خرجت اقتصادياتها من أزمات حادة خلال سنوات قصيرة، الأرجنتين والبرازيل مثلا، تحولتا خلال أقل من عقد واحد من دول "مفلسة" إلى اقتصاديات عالمية، بل تبوأتا مقعدين ضمن مجموعة العشرين، ذلك أنهما أدركتا نفسيهما بسرعة، ووضعتا برامج اقتصادية، وإصلاحات حولت المتظاهرين في الشوارع إلى أرباب عمل وعمال وزراع منتجين في اقتصاديات تعتبر اليوم الأسرع نموا في العالم رغم الركود الذي أثر على الكبار في أوروبا وأميركا.

السر هو في السيطرة على "الفوضى" التي ستتبع القرارات الصارمة، بل المؤلمة للبعض، من خلال فريق عمل واضح الرؤية متجانس مكمل لبعضه البعض.

أتخيل هذا الفريق المشكل من وزارات الداخلية، والبلديات والتجارة والعمل، والغرف التجارية، ومؤسسات التدريب وقطاع الأعمال، في حالة اجتماع دائم، يراقبون السوق، وما يطرأ عليه من تغيرات، وإشكالات، هدفهم هو توطين الوظائف، بدون ظلم لأحد، الشوارع التجارية والأحياء السكنية التي ركدت بعدما خلت متاجرها، تنظر البلديات في تحويلها إلى أحياء نموذجية، هادئة وادعة، فترتفع قيمها العقارية فيعوض الملاك الذين خسروا من خلو المحلات التي كانت تدر عليهم إيجارا سنويا، من جهة أخرى تضمن عدم تسيب العمالة إلى مكان آخر، والتستر إلى موقع آخر، تخصص البلديات مواقع خاصة للمتاجر في الأحياء، لا تزيد عن الحاجة، فتزداد إيراداتها اليومية بالشكل الذي يغري السعودي بالعمل والاستثمار فيها.

تفاصيل عدة يشترك فيها الجميع كي تعود الحياة إلى طبيعتها في بلادنا، فيخف الزحام، ويعمل المواطن في ساعات عمل معقولة، ويعود السعودي إلى شتى المهن تدريجيا، بضغط حاجة السوق إليه، وفرصة الربح العالية.

حسنا.. أتوقع أن ثمة من يقول إن ذلك سيؤدي إلى ارتفاع في أسعار السلع والخدمات، نعم سيحصل ذلك، ولكن ستذهب هذه الزيادة لأخيك السعودي وسيبقى المال في وطنك، ويمكن لأكاديمي متخصص في الاقتصاد أن يحدثنا عن الفائدة العظيمة لاقتصادنا الوطني لو حصل ذلك.

إنها سلسلة جميلة من الأحداث تعزف كأنها موسيقى لنشيد وطني يثير الفخر والحماسة ولكنها تحتاج إلى عزيمة وحسن تخطيط وتدبير.