اختلف اثنان من زملائي الجراحين يوما حول تشخيص حالة جراحية فهرع كل منهما إلى المصادر العلمية فتأبط شرا وأحضر بطرا ولم يكن الهدف الحقيقة بل المراء وقهر الخصم، وفي النهاية تخاصما وبالمناكب والأذرع وكادا أن يشتبكا بالمشارط والمقابض لولا تفريق الزملاء. فيبقى الجراحون أطباء أولاد مهنة يتنافسون ويتباغضون ويتناجشون ويتحاسدون ويكيد بعضهم لبعضهم كيدا. فإن نجح أحدهم حُسِد وإن فشل شمتوا.
يومها تدخلت أنا بينهما وحاولت رأب الصدع فأبى الأول ورضي الثاني فلم يكن أمامنا سوى أن ندعو بالمغفرة وفتح الدماغ من الزوايا الثمانية مثل صندوق حديدي مغلق.
هذه القصة بسيطة ويتقبلها الناس كون ضحاياها من الأطباء ولكن هل يخطر في بال أحد مثلا صراع البروتستانت والكاثوليك ولا نقول الشيعة والسنة والخلف والسلف. إننا يجب أن نقول كلاما لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا ولا يحرض مخبرا سريا على كتابة تقرير. أو أصوليا يحرك القوى العاتية ضد مفكر أنه هرطق وزندق. فهذه عين الحكمة كما كان ديكارت فيلسوف التنوير يقول يوما عاش سعيدا من بقي في الظل.
ولم ينج المسكين من قبضة الكنيسة والبابا والكرادلة الاثني عشر فقد أرسل له إلى السويد الباردة حيث الثلوج والدببة القطبية من سممه بالزرنيخ على مهل. فسلم الأمانة في أيام معدودات ولم يراجع.
هذه الفقرة (عنوان المقالة) استفدتها من المفكر الجزائري أركون في جدلية الثلاثي: التاريخ واللغة والواقع، والرجل حينما كان يستشهد باللغة ينقل صراعات البشر حول النصوص. مثلا تأملوا معي هذه القطعة من آية في سورة الإسراء كيف استخدمها الأمويون في أحقيتهم بالخلافة، وهي تذكر بالجدل الدستوري أيضا حول المادة 56 و57 حين انتهى بن علي التونسي إلى خارج البلاد. قال الأمويون يقول الله تعالى "ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا". قالوا إن السلطان لنا لأن عثمان قتل مظلوما هل يشك أحد في مظلوميته. إذا لاشك في أن الخلافة لنا. إنها فقرة أيضا تذكر بقرار الأمم المتحدة باللغة الإنجليزية حول انسحاب إسرائيل من أراض محتلة وليس من الأراضي المحتلة لعام 1967م بعد حرب الأيام الستة بحذف حرف تعريف. حرف فقط ولكنه يقلب السماوات والأرضين. تأملوا هذا الحرف النكد الحرف الحريق (THE). إنها نفس آليات الصراع بين المذاهب والفرق النصرانية. تأملوا مثلا صراع الأرثوذكس والكاثوليك حول ماذا تم. ولما انفطرت البلقان عام 389 وتكررت عام 1996 بعد 1600 سنة حين زعق سلوبودان ميلوسوفيتش استرجعوا ما خسره الملك لازار في عام 1389 على يد الخليفة مراد. فدفع المسلمون الضريبة دما في سراييفو كما رأيتها أنا في ديسمبر من عام 2010 لشعب طيب وبلد جميل وتاريخ عريق.
قالت الأرثوذكس إن روح القدس اشتق من الله فقط لا غير مثل توقيع الشيكات، وقالت الكاثوليك لا من الاثنين الأب والابن. تعالى الله عما يقولون علوا كثيرا فاختلفوا وما زالوا.. هل هو صراع عقائدي أم سياسي على الأرض كما نعرف عن تقسيم الإمبرطورية الرومانية عند هذا الصدع بين أوناريوس وأركاديو؟ أنقلها حتى أفتح عقل الشاب على طبيعة الصراعات وكيف تحدث. وعلينا أن نفهم الواقع كما علمنا التونسي الرائع ابن خلدون أن الأخبار لا يعول عليها كثيرا في نقل النصوص، بل يرجع إلى الواقع في ست فقرات. قال رحمه الله في المقدمة: اعلم أن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فلا يأمن فيها الإنسان من العثور وزلة القدم والحيد عن جادة الصدق وهو ما وقع لكثير من أئمة النقل والتفسير. ثم يذهب رحمه الله فيطبق هذه القاعدة السداسية على ست حالات من شبهة زنى العباسة أخت الرشيد مع البرمكي. وحملات أهل اليمن إلى المغرب. وأن جيش موسى كان 600 ألف عسكري فيفندها من معطيات الواقع.
وهكذا أرجع إلى كل الأمثلة الواردة تنبيها للغافل ويقظة للواعي أن كلها يجب أن تفهم ليس من خلال الكلمات بل الصراع الواقعي بين فرق متصارعة.. إن وعيا تاريخيا سياسيا اجتماعيا هو ما يضيء لنا بطن الحوادث. فنعرف أن ألم المريض في البطن خلفه انفجار زائدة والتهاب بريتوان قاتل، قد لا ينفعه حتى فتح البطن المتأخر.
رحمة الله عليك يا عبدالقادر الغزاوي أكل معي الرجل كقط بري. وبعد أيام رأيته في سكرات الموت في العناية المركزة.
سألته ما الخبر.. قال بطني بطني..
مات بزائدة مهملة.. رحمة الله عليك عبدالقادر ورحمة الله عليكم جميعا أهل غزة من مات بيد بني صهيون ورحمة الله على أهل تونس الفقراء ممن مات في شتاء 2011.