قد لا تجتمع كل هذه العناوين في مقال واحد، لكنها اجتمعت على أرض الواقع، وقد طغت هذه المواضيع في الأسبوع الماضي على أحاديث المجالس، وفي مواقع الإنترنت، وصفحات الفيسبوك والتوتير، والمنتديات، ومراسلات الجوال وغيرها. كان الأسبوعان الماضيان حافلين بأحداث كثيرة جعلت الناس في حوار دائم ومتواصل حتى على المستوى الشعبي الذي كان لا يهتم إلا بما يخص يومه، لكن المسألة كانت أبعد من ذلك بكثير. هذه العناوين لامست الناس مباشرة سواء على المستوى البسيط أم على مستوى الإنسان المثقف، والجميع هنا يشتركون في خطاب واحد هو خطاب الحرية والعيش الكريم. الناس لا يريدون إلا العيش بكرامة ورخاء، لتجيء هذه الأحداث معبرة عن هموم الإنسان البسيط والإنسان المثقف.. الهموم مهما تباعدت تبقى في إطارها العام واحدة.

ثورة تونس بالطبع جاءت لتغطي على المشاهد السياسية والاجتماعية والثقافية كلها كونها الأحدث والأبرز والأهم في كلام الناس. لماذا..؟ لم يحصل تعاطف شعبي عام مثلما حصل في ثورة تونس فما الذي جعل هذه الثورة بالذات تأخذ هذا النصيب الأكبر من الحدث..؟! إنه ما يربط الناس مع واقعهم.. جاءت الثورة لتخبر عن فساد السلطة في تونس.. وثورة الجياع كما يحب أن يسميها المحللون، كانت أقرب إلى ثورة رجل الشارع منها إلى ثورة النخبة.. محمد بوعزيزي رجل جاء من الشارع لكنه أشعل بنفسه النار من الظلم الذي وقع عليه، لتشتعل الثورة في تونس كلها. ما أسوأ أن يضيق الإنسان في معاشه اليومي. تونس اليوم أصبحت رمز الحرية والإباء ورفض الظلم، والبيت الشعري الشهير الأسبوع الماضي كان لأبي القاسم الشابي: ( إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلابد أن يستجيب القدر).

في نفس اليوم الذي وصلت فيه ثورة تونس أقصى مداها ، توفي الشاعر الكبير محمد الثبيتي، ولم يستطع تملك بيت طوال حياته، إذ ما يزال أبناؤه في بيت مستأجر بعد مرض دام سنتين.. الثبيتي أحد رموز الأدب السعودي، ومع ذلك لم يجد الرعاية الصحية الكافية طيلة أيام مرضه، الثبيتي يجسد حالة الكثيرين من أبناء الوطن، وليس حالته الخاصة، لكنه كان رمزاً ثقافياً لم يجد في رمزيته أي قيمة يمكن من خلالها تحسين أوضاعه الحياتية اليومية التي هي حياة المواطن العادي.. المواطن الذي يخرج كل صباح لطلب الحياة الكريمة، وإذا كان هذا وضع الثبيتي وهو الرمز، فما بالك بالناس الذين ليسوا رموزا..؟ الناس البسيطون.. الناس الذين لا يجدون مأوى إلا بالتنقل ما بين بيت مستأجر إلى بيت مستأجر آخر في غلاء معيشي فاحش جداً، ومبالغ فيه حد الشك في التلاعب في حياة المواطن. وإذا كان الثبيتي لم يجد الرعاية الصحية اللازمة لحالته المرضية، وهو الرمز فما هي حالات آلاف الموطنين الذين لا رمزية لهم إلا كونهم مواطنين فقط من غير أي مسمى آخر؟!... أبناء الثبيتي بلا وظيفة، وهي حالة آلاف العاطلين عن العمل من الشباب السعودي لأنه كان نبيلاً ولم يكتب قصيدة في مدح أحد، وهو الذي باستطاعته لو كتب لكان من أثرى الأثرياء الذين يجيدون الكذب. ما هي حالة الناس البسطاء الذين لا يجدون غير صباح الخير يلقونها على مسامع أمهاتهم وآبائهم ويخرجون ليبحثوا عن فرصة عمل فلا يجدونها. (صباح الخير) هذه كفيلة لأن تجعل منهم أناساً يستحقون أن يعملوا، وأن يعيشوا بكرامة.

في نفس الأسبوع والأسبوع الذي قبله كان المنتخب السعودي لكرة القدم في هزائم متتالية جعلت الناس تغضب من المستوى الذي وصلت له كرة القدم السعودية. والكرة هنا خطاب اجتماعي وثقافي مهم في كشف العيوب الإدارية في كل القطاعات غير الرياضية الأخرى التي تهم الموطن البسيط، لكن تأتي كرة القدم لتكون حدثاً رياضياً يحكي عن واقع إداري طالما تحدث عنه الناس واشتكوا منه وكتب بعض الكتاب عنه.. كرة القدم السعودية حكت عن واقع سيئ.. كرة القدم فن، وأول ما ينهار من حضارة ما فنونها كما يعتبر ذلك ابن خلدون، وحينما تنهار كرة القدم السعودية، فإن المسبحة سوف تنفرط، كرة القدم تعطي النذير الأول لكل من يريد التصحيح. هكذا يفكر رجل الشارع. وإلا ما الذي يهمه من هزيمة رياضية لولا خوفه من الهزائم الأخرى في القطاعات الأخرى ..!

الحدث الثقافي الآخر البارز، والذي لا يخص الثقافة، بل كل مستخدمي الإنترنت بمعنى أنه يهم المواطن العادي هو ما طرح في لائحة النشر الإلكتروني حيث يعتبره الكثيرون مرحلة أولى لمنع الكثير من المواقع، وقد جاءت هذه اللائحة في الوقت الذي تطمح فيه الشعوب إلى مزيد من الحرية الإعلامية والإلكترونية، خاصة أن مواقع الإنترنت كانت أكثر جرأة في قول ما لا يقال في الصحف الرسمية، وحينما تأتي لائحة النشر الإلكتروني، فإنما لتحجب الصوت الوحيد للمواطن البسيط، والذي من خلاله استطاع الإنسان أن يبث همومه وصراخه ومطالباته، وجاءت هذه اللائحة لتسد الباب على مثل هذه الأمور. هنا تصبح الحرية في طرح ما يريده متصفحو الإنترنت من أفكار أو هموم يومية ليست مطلبا ترفياً، بقدر ما هو ضرورة إنسانية تقتضيها حاجة الإنسان اليومية.

إن كل هذه المواضيع تشترك في هم واحد يمكن اختصاره كما قلنا في بداية المقال في الحرية والعيش الكريم، وهي مشتركات إنسانية ووطنية يحتاجها المواطن قبل أي شي آخر. حرية الإنسان وكرامة عيشه يمكن أن تأخذ أشكالاً عديدة، وهمومه يمكن أن تتجسد في التعبير عنها بطرق مختلفة ربما كانت في أقل الأمور كطابور الخبز كل صباح مثلاً.