ما حدث مؤخراً في تونس هو ثورة شعبية لم يشبها أي تدخل خارجي، وأستطيع هنا أن أسميها بـ"ثورة البوعزيزي" لأنها انبثقت من الشارع بعد أن أشعلها الشاب المقهور محمد (طارق) البوعزيزي، الذي اختار أن يحرق جسده بعد حادثة مصادرة الشرطة لعربته التي يكسب منها قوت أسرته، زادها سوءاً صفعة على وجهه تلقاها من شرطية تونسية.

ولو تتبعنا مرحلة ما قبل الحادثة، لوجدنا أن ولادة هذا الشاب كانت في عام 1984، وهو العام ذاته الذي حدثت فيه المظاهرات العارمة، التي عرفت في تونس بـ"ثورة الخبز" والتي سقط فيها مئات الضحايا، بعد مواجهات دموية بين المواطنين ورجال الأمن بسبب زيادة سعر الخبز، إذ لم تهدأ الأوضاع إلا بعد أن تراجعت حكومة البلاد عن قرارها بعد يوم واحد من صدوره. وأفرزت تلك الأحداث استدعاء الجنرال زين العابدين بن علي ليشغل منصب مدير عام الأمن الوطني، بعد أن كان سفيراً في وارسو ببولندا، وبعد عودته بفترة ارتقى إلى منصب رئيس الوزراء، واستطاع بعد ذلك بعام واحد أن يزيح الحبيب بورقيبة، الرئيس الأبدي الأول للجمهورية التونسية، ويحتل مكانه مستفيداً من هرم الرئيس والمادة 56 من الدستور التونسي، وفق ما عرف بتحول السابع من نوفمبر.

صحيح أن تونس بلاد تقوم بها مؤسسات المجتمع المدني، من الاتحادات والنقابات والجمعيات-وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل- إضافة إلى الأحزاب، ووجود معارضة سياسية في الداخل والخارج.

إلا أنه خلال ربع قرن مضى، ولد جيل تونسي جديد حظي بتعليم جيد، لكنه قاسى أعمق القضايا الحساسة في حياة البشرية: الحرية والتعددية، البطالة، الفساد، الوهن الاقتصادي، سوء توزيع الثروات، الخوف السياسي، الكبت الاجتماعي... من المؤكد أن مثل هذه الأمور كانت تعتمل كبركان في أذهان هذا الجيل الطموح، بل ربما أنها شغلت محور تفكيره طيلة السنوات الماضية، فوصل مرحلة حرجة من اليأس المشوب بالغليان والقهر من الأوضاع التي لا تتحسن رغم كل الوعود، ولا سيما في مرحلة الفضاء المفتوح الذي يدفع بمن يحاول غلقه، إغلاق الباب على نفسه كالمسجون!

إن ما يعانيه الشباب في تونس يعانيه الشباب العربي بوجه عام، رغم كونهم يمثّلون الأغلبية في التركيبة السكانية لكل البلاد العربية، ومعروف أن الشباب لديهم الحيوية والحماس الذي قد يعبّر عنه بطريقة مدمرة، وبالتالي فهذه المرحلة العمرية في مرجل يغلي، يمكن أن يجعل أي بلد على كف عفريت ما لم يتم تخفيف الضغط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي عن المجتمع بشكل عام.

ولهذا فإن الشباب هم من يقود التحولات، غير أن انعدام التواصل بين القمة والسفح يصنع فجوة تتسع بالتدريج مع تقادم الزمن، دون أن يتم التنبه إلى ضرورة تجسيرها، وهذه الفجوة الفجائية هي التي سيقع فيها من يقع-وربما يدفن حياً- وهذا ما بث الرعب في قلوب كثير من الأنظمة العربية، خوفاً من انتقال العدوى التونسية، وخاصة بعد إحراق بعض الشباب العرب لأنفسهم أمام مؤسسات الحكومة في الجزائر ومصر، والقيام بمظاهرات ومسيرات معترضة على سياسات الحكومة ومؤيدة للثورة التونسية كما حصل في السودان واليمن والأردن.

ومن أجل أن تتجاوز المجتمعات العربية القلقة هذا الاحتقان المؤدي حتماً إلى الفوضى، يفترض في الحكومات أن تعي خطورة الاحتقان، وبالتالي إفساح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني كي تكون مساحة حرة يتحرك فيها المجتمع، وأن تركز على الإصلاحات السياسية التي تتيح المشاركة الشعبية، وأن تعالج البطالة والأوضاع الاقتصادية المتردية التي تبقي المواطن العربي كادحاً كأنما هو في دوامة لا يعرف منتهاها! وخاصة أن النظر إلى المستقبل يحتم الإسراع بتنمية حقيقية تعيد بناء الهيكل الحكومي كالتعليم والصحة والإعلام والاقتصاد، مع إفساح المجال لحرية التعبير، بشرط ألاّ ينتهي كل ذلك بمجرد وعود تنتهي بكونها حبراً على ورق، فكل شاب عربي داخله (بوعزيزي) آخر!