ذات يوم، قبل ما يربو على خمسة عشر عاماً، وبينما يلتف حبل الجوع والإحساس بالقهر على رقبتينا أنا وصديق عزيز يشاركني الهم الإبداعي (أنا شعراً وهو قصة)، كما يشاركني الهم الوظيفي إذ نعمل في جهة واحدة، براتبين لا يكفيان مجتمعين طفلاً صغيراً، ولا يفيان بطموحاتنا في الزواج وإكمال دراساتنا العليا، تجلت إلى ذهنينا فجأة فكرة رأيناها عبقرية، واتفقنا على الشروع في تنفيذها ذات صباح.
كانت المقاهي تجمعنا كل يوم بعد انتهاء أوقات عملنا، وأتيليه القاهرة يجمعنا مساء كل ثلاثاء. طعامنا مشترك، وشرابنا مشترك، ومبادئنا واحدة، كأننا روح واحدة توزعت في جسدين. دائماً معاً، ولا نفترق إلاّ قليلاً.
هو صعيدي يسكن في حجرة بأحد أديرة القاهرة مع زملاء آخرين، وأنا شرقاوي يسكن في شقة مشتركة مع أحد أبناء قريته في القاهرة. كلنا في (الفقر) سواء!.
كان النيل عن يسارنا ونحن نسعى سائرين على أقدامنا نحو تنفيذ الفكرة/ الهدف!. سائرين...؟!، لا...، بل قل طائرين، وكأن كلا منا على موعد مع محبوبة تنتظره منذ زمن!.
أكل الحديث العذب عن مزايا الهدف كل آلام الطريق، كأن الحلم هو الذي يقطع المسافات لا أرجلنا الهزيلة، ولكن... يا للعجب!.
الهدف أصبح في مرمى عينيّ وعينيه ولكن أقدامنا تثقل كلما اقترب!. الخطوة الواحدة أصبحت حملاً ثقيلاً، وكل منا يطالع وجه الآخر محاولاً قراءة شيءٍ ما...!. شيءٌ ما هبط في قلبينا في آن واحد، وخلال مسافة واحدة!.
وبينما يرخي الذبول هزاله على ملامحنا، بددت سكوننا صرخة واحدة: هل جننا؟!.
يا الله...!. كأن الأرض هي التي استدارت بنا وألقتنا معاً في الدير الذي يسكنه صاحبي!.
بدأنا رحلة العذاب وجلد الذات ونحن جالسان تحت شجرة عتيقة، بينما الهواء يبعثر أوراقنا/ الجريمة، ويغسل وجهينا من سواد الطريق!.
كيف بالله طاوعتنا أقلامنا لنكتب مثل هذا الطلب؟!، وكيف في لحظة يأس خانقة قررنا الانتحار؟!، أسفارة إسرائيل يا صديقي هي التي ستنقذنا من واقعنا الأليم؟!، سألني وسألته السؤال ذاته!. هل باستطاعة الإنسان أن يرى القبح جمالاً حتى وإن كان على حافة الموت؟!.
غسلنا أوجاعنا وانبرينا مع إخوة لنا في الدير في نقاش حياتي عن الهموم التي تشملنا، وجمعنا حوار ديني يقرّب ولا يفرّق، وأكلنا معاً قبل أن أعود إلى مسكني خبزاً وجبناً، ونام كل منا وهو يحلم بزمن آخر تتحقق فيه أحلامنا على أرض الوطن!.
هذه صورة من الصور الحقيقية للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، لعلها تصل واضحة جلية للمنحرفين والمتطرفين فكرياً في الجانبين، أولئك الذين لا يدركون أن هواء الدير الذي غسل وجهينا من سواد الفكرة، هو نفسه الذي تتجلى في عذوبته مآذننا وشرفاتنا ومدننا وقرانا وأرض الوطن كله!.