أتذكر جيداً أواخر التسعينيات أول مرة وقعت فيها عيني على نسخة مصورة من كتاب "بنية العقل العربي" حيث كان ممنوع التداول في المكتبات وفي نفس الوقت ذائع الصيت بين أوساط الشباب المتحولين من التيارات الإسلاموية على اختلاف تنويعاتها الذي اعتبر آنذاك انقلاباً ثورياً في طريقة قراءة التراث بأدوات ومداخل منهجية ومصطلحات كانت غريبة ونافرة لمن اعتاد قراءة التراث بانتقائية احتجاجية لترصيع الايدلوجية السائدة آنذاك؛ كان الجابري يومذاك شغلنا الشاغل نتنقل من قراءته لابن خلدون إلى ابن رشد وصولاً إلى المدارس الكلامية الكبرى التي لم يتعامل معها على طريقة الإقصاء والنفي بحسب الضفة التي تقف عليها أقدامنا؛ قدر أنه حاول تفكيك بناها الداخلية متتبعاً مقولاتها الرئيسية ضمن المسار التاريخي الذي نشأت فيها ومن خلال السياقات المحددة لها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

وإذا عنَّ لي أن استرجع أسباب ذلك النهم في تلك المرحلة الجابرية بامتياز يمكن القول إن الجابري انتصر على منافسيه في حلبة قراءة التراث ونقده لأسباب كثيرة لعل من أبرزها: المدرسية التي كان يطرح بها أفكاره حيث الأسلوب المألوف جداً في طريقة الدرس السلفي والمبني على ما يسميه الأصولويون "السبر والتقسيم" عبر تفريع وتنويع المقولات والشخصيات والأفكار وتحقيبها إلى مسارات كبرى يمكن لم شتات الأمثلة العملية تحتها وهو الأمر على عدم دقته علمياً كان يمنح قارئه يقينية باردة تشبه إلى حد كبير يقينية الخطاب السلفي القارّ في النفوس.. ومن هنا كان حضور شخصية أكثر دقة وطرحاً للأسئلة العميقة كالعروي أقل بكثير من الجابري.

السبب الآخر لغة الجابري الساحرة التي لم تكن تشبه لغة نقاد التراث الآخرين حيث أسلوبه العذب الأدبي الذي يحاول تقريب المسائل الكلامية والفلسفية في قالب سردي ماتع تنساب من خلاله الاقتباسات عن المصادر الأصلية بشكل غير قلق أو وحشي على عكس الكتابات الأخرى لمنافسيه والتي تبدو أشبه بلغة المدونات الفلسفية المترجمة التي تحتاج إلى مران عقلي وصبر طويل من قارئها.

سبب ثالث حضور الجابري في السياق المحلي عبر زيارته للجنادرية لاحقاً ومن خلال مقالاته في صحيفة الاتحاد وحواراته في مطبوعات أخرى وهي منتجات خفيفة المحمل لكنها ملائمة جداً لمن لم يكن يطيق قراءة أعماله المطولة ..إضافة إلى أن انتشار وتداول كتبه تصويراً واعارة حوله إلى صف الكتاب المشاهير إذا ما أخذنا في الاعتبار القوة الشرائية لمعارض الكتب التي تقام محلياً حيث ساهم الطلب على كتبه إلى تحويله إلى الفيلسوف المغربي الأول في وقت كان المشتغلون بالفلسفة في المشرق مصر ولبنان يعانون من ترهل معرفي وعدم قدرة على تجاوز جيل الرواد ومفكري النهضة.

عدا هذه الأسباب لم يكن هناك تحسس أيدولوجي أو سياسي من الجابري فلم تصدر عنه مثلاً تجديفات يمكن التعبئة ضدها من التيار المتشدد ولا اشتغال بالسياسة والمعارضة بحيث يخرج عن كونه مفكراً إلى ناشط سياسي وإن ظل أميناً لقوميته العربية في شكل هوياتي غير مؤدلج.

يمكن القول إذن أن صورة الجابري قد ارتسمت في أذهان من كان يطلق عليهم "الإسلاميون التنويريون" كأحد أبرز المساجلين لسؤال النهضة حيث تناول هذا السؤال الإصلاحي الكبير بذكاء بحثي من خلال مدخل استلهام التراث عبر تمحيصه ونقده؛ وكان هذا عامل جذب كبير لقرائه القادمين من مدينة التراث السلفية الذين كبلهم الدوران في فلك التناول التقليدي للتراث فوجدوا في الجابري دون غيره ممن تعاطى سؤال النهضة عبر بوابات السياسية والاقتصاد إجابات للأسئلة الحائرة، رسالة الجابري وهو كان مبشراً يقذف بأجوبة اليقين هو أن النهضة لا يمكن أن تستحدث خارج أسوار العقل النهضوي وعقل كهذا لا يولد إلا عبر عملية نقدية طويلة للعقل العربي التاريخي الذي سيطرت على بناه النظرية عوائق إبستمولوجية جعلته يفقد رهانه المعاصر ليعيش لحظة انقطاع مع الواقع.

الجابري جاء إلى بوابة الفلسفة قدراً بعد أن أعيته الأرقام الهندية إبان رحلته للتخصص في الرياضيات بسوريا حيث كانت بديلاً للأرقام العربية / الفرنجية التي ألفها في دراسته في المغرب، طرافة هذه القصة التي رواها في كتابه مسار كاتب لا تلغي ذلك الشغف المحموم الذي كان يبديه دائماً في حوارته بعلم الرياضيات وأنه كان الأقرب إلى نفسه من الفلسفة حيث يقول: "كنت مولعا بالرياضيات.. كان لدي ما يشبه الموهبة في هذه المادة"، الفلسفة إذن كانت قدر الخوارزمي الصغير الذي ولج علم الكلام في العشرينات مرغماً بعد أن ركن إليها كخيار ثالث مجرباً القانون الذي لم يعجب بصرامته بل اعتبره مادة تعتمد بالأساس على الحفظ والمراجعة وليس على الفهم وتدقيق النظر.

وكما كانت لعبة الأرقام سبب نكوصه عن الرياضيات واشتغاله بالفلسفة اضطراراً فإن عشقه للتراث جاء مبكراً من خلال إعجابه بابن خلدون ومقدمته في وقت مبكر من دراسته الجامعية وذلك عبر سماعه لبرنامج إذاعي مصادفة يتحدث عن فكر ابن خلدون (يالإذاعات الزمن الجميل!) حيث دفعه ذلك لاستعارة المقدمة التي كانت فاتحة أول دراسة يعدها لاحقاً في الدراسات العليا؛ ثم كرت سبحة الفلسفة والتراث التي ما لبثت أن حولت هذا المفكر إلى أيقونة للراغبين للدخول على مهل وباستمتاع شديد بالأسلوبية الفاتنة التي يكتب بها إضافة إلى الرسالية التي تتخلل سطوره حيث يمارس نقد العقل التراثي ليس لذات النقد بل بهدف تحرير العقل من هيمنة الإرث الثقافي وهو ما فتح المجال لمجاييله وأبرزهم وأكثرهم دقة جورج طرابشي إلى تتبع تعممياته والنفاذ من تلك الرسالية والأسلوبية الساحرة إلى إعادة مساءلة المشروع نقدياً وهو رغم كل ما قيل أضاف إلى مشروع الجابري وأثراه.

صحيح أن الجابري بعد ذلك تحول إلى موضة ثقافية يتم الالتصاق بها كرمز يمكن الاطمئنان كثيراً إلى أفكاره ومقولاته غير الصدامية والمؤدلجة على عكس آخرين إلا أنه لا يمكن الإغفال أبداً أن أولئك التيارات المتشددة التي حاربت الجابري ونصبت له العداء كانت اللاعب الأهم في انتشاره وتسويقه لعامة الناس وأظنها تحاول اليوم بعث حضوره مجدداً بعد ردة الفعل اللاأخلاقية تجاه موته.