يُحاصِر المسلمَ المعاصر توجهان في تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بالظواهر الكونية. فالتوجه الأول ما يسمى بـ"الإعجاز العلمي في القرآن" الذي يفسر تلك الظواهر بالنظريات العلمية الحديثة مدعيا أن القرآن الكريم سبق إلى تفسيرها.
وكنت عرضت في مقال سابق إلى ظاهرة "الإعجاز العلمي في القرآن" وأسميت المهتمين به بـ"العَجَزة"، وهم يَسطون على ما أنجزه العلماء الغربيون من نظريات علمية عن الكون ويدعون أن القرآن الكريم سبق تلك النظريات إلى تفسيرها. ويعرِّض هذا المنحى القرآنَ الكريم للتأويل بنظريات يعترف العلماء الغربيون أنفسهم أنها تفسيرات وقتية تتلاشى دائما بفعل تزايد المعرفة العلمية بتلك الظواهر. ولا يخشى أولئك المتنفِّعون بهذا المسعى غير العلمي من احتمال أن يؤدي تغيرُ تلك النظريات إلى تكذيب القرآن الكريم.
ويقابل هذا الافتئات على القرآن الكريم وعلى العلم كليهما التوجهُ الثاني الذي يتمسك بالتأويلات المأثورة لتفسير تلك الآيات تفسيرا حرفيا يتناقض مع المعارف العلمية الحديثة. وهو تفسير يقوم على تخمينات وتصورات أثبت العلم الحديث عدم صحتها.
ومناسبة هذا المقال ما كتبه الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء" ("التخويف بالآيات ليس خرافة"، الرياض، 3/2/1432هـ) تعقيبا على مقال كتبه الأستاذ فهد الأحمدي ("المعرفة تقتل الخرافة"، الرياض، 29/1/1432هـ)، من أن الأحمدي كتب ما: "ينكر فيه التخويف بالكسوف والخسوف والرعد وينكر أن يكونا من الآيات التي يخوف الله بهما عباده"، كما يقول الشيخ الفوزان.
ومن الواضح أنه كما يمثل التأويل المتذرع بـ"الإعجاز العلمي في القرآن" مأزقا للمسلم المعاصر فإن التأويلات الحرفية القديمة تمثل له مأزقا مماثلا. ذلك أن التأويلات التي توردها كتب التفسير المأثورة مؤسسة على معارف المفسرين القدماء عن تلك الظواهر. ولا يمكن أن تتماشى تلك التأويلات مع ما وصلت إليه العلوم الحديثة التي تطورت بعد قرون عدة. ويعني هذا أن المسلمين غير ملزمين بتلك التأويلات التي لا تتلاءم مع ما وصلت إليه العلوم الحديثة التي كشفت أسرار الظواهر الكونية وفسرتها بقوانين فيزيائية وكيميائية معقولة.
وينطبق الأمر نفسه على التفسيرات القديمة للظواهر الكونية الواردة في الأحاديث النبوية المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذ وصلتنا تلك الأحاديث متأثرة بمعارف رواتها القديمة المماثلة عن تلك الظواهر.
وقد استشهد الشيخ الفوزان في تعقيبه بجزء من آية كريمة نصها كاملا هو: (وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِ?لآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ?لأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ?لنَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِ?لآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) الإسراء: 59. وعلى خلاف التأويل الذي ساقه الشيخ الفوزان، يمكن أن تفهم هذه الآية الكريمة على أن الله تعالى يمتن على "قوم" الرسول صلى الله عليه وسلم بألا يرسل عليهم "آيات" للتخويف مماثلة للآيات التي أرسلها على بعض الأمم السابقة لعلمه سبحانه بأنهم سيكذبون بها كما كذب الأولون بالآيات التي أرسلت إليهم فيعذبهم جزاء ذلك التكذيب. وضرب لذلك مثلا بتكذيب قوم ثمود بالآية التي أرسلت إليهم وعقابه لهم على تكذيبهم بها. لكنه سبحانه امتحن "قوم" الرسول صلى الله عليه وسلم بآيات من نوع آخر وردت في الآية التالية ووصفت بأنها "فتنة" لامتحان الناس فيؤمن بسببها من يؤمن ويكفر من يكفر.
كما يمكن أن تُفهم بعض الآيات الكريمة التي استشهد بها الشيخ الفوزان فهما مختلفا عن الفهم الذي تقول به التفاسير القديمة. فربما يفهم قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) الرعد: 12، على أن الخوف فيها ليس الخوف من أن يكون البرق نذيرا بعذاب من الله بل إشارة إلى خوف الناس خوفا "طبيعيا" من أن يكون البرق نذيرا بمطر تكون عاقبته تدمير بيوتهم أو مزارعهم أو إغراقهم، كما يحدث في مثل هذه الحالات أحيانا، أو يكون برقا خلَّبا لا يتبعه مطر. فهم يخافون من هذه العواقب "الطبيعية" فقط، كما هي حال البشر. وربما يؤيد هذا الفهم أن الآية الكريمة تنص على أن البشر، إلى جانب خوفهم "الطبيعي" ذاك، فإنهم "يطمعون" أن يكون البرق بشرى خير بمطر يروي مزارعهم ويملأ آبارهم وينبت الكلأ الذي تتغذى عليه مواشيهم.
وختم الشيخ الفاضل تعقيبه بأن يرجو "من الكاتب وغيره إعادة النظر لتصحيح هذا الفكر والتصور الذي يخل بالعقيدة". وهذا القول حكم نهائي بأن التأويلات القديمة هي الصحيحة والنهائية للآيات الكريمة تلك. وربما يؤدي هذا الحكم، لو كان صحيحا، بالمؤمن المعاصر إلى مأزق ينحصر فيه بين خيارين: فإما أن يؤمن بالتأويلات القديمة ويكذب نتائج العلوم الحديثة، أو أن يؤمن بنتائج العلوم الحديثة ويتشكك في التأويلات القديمة التي ينظر إليها على أنها جزء من "العقيدة".
وأمام هذا المأزق فإن علماء المسلمين المعاصرين مطالبون الآن بإبداع تأويلات جديدة للآيات الكريمة لا تتصادم مع نتائج العلوم الحديثة وتتجنب، في الوقت نفسه، الوقوع في تأويلات المشغولين بـ "الإعجاز العلمي في القرآن" التي تنزلق إلى محاذير يمكن أن تقود إلى نتائج أكثر إشكالا.
والتمسك بالتأويلات المأثورة ليس لازما ـ أبدا ـ دينيا وعلميا. ذلك أن تلك التأويلات كلها محكومة بثقافة العصور التي عاش فيها قائلوها. وليست العلوم الحديثة نفسها استثناء من هذا الحكم؛ فهي تتطور دائما بسبب تجاوزها للتأويلات "العلمية" السابقة.
ويمكن الاستشهاد على ذلك، مثلا، بما يقوله عالمان من أبرز علماء الفيزياء المعاصرين، هما الفيزيائي المشهور ستيفن هاوكنج، وليونارد ملوديناو (ترجمتي): "غالبا ما يجادِل القائلون بالواقعية الصارمة بأن البرهان على أن النظريات العلمية تمثل الواقع يشهد به النجاحُ الذي حققته تلك النظريات. ومع ذلك يمكن لنظريات مختلفة أن تصف بنجاح الظواهرَ نفسها انطلاقا من أطر تصورية مباينة تماما. بل الواقع أن كثيرا من النظريات التي سبق أن بُرهن على نجاحها استبدل بها فيما بعد نظريات أخرى، تماثلها في النجاح وتقوم على تصورات للواقع جديدة تماما" (كتاب: "التصميم العظيم: إجابات جديدة عن سؤال الحياة الجوهري" (Stephen Hawking and Leonard Mlodinow: The Grand Design: New Answers To The Ultimate Question Of Life, 2010, p: 44).
فإذا كان هذا هو مصير النظريات العلمية المعاصرة "الناجحة" فكيف يصح لنا التمسك بتأويلات قديمة لم تخضع للمعايير العلمية الدقيقة التي لم تنضج إلا في العصور الحديثة؟
وأخيرا يجب ألا ينظر إلى التأويلات العلمية على أنها تدخل في باب "العقيدة" حتى لا يتعرض القرآن الكريم لما تعرضت له الكتب السماوية الأخرى التي أدى تفسيرها تفسيرا حرفيا إلى الصدام مع العلوم المعاصرة.