لماذا لم نعد نبتهج، كما كنا في الماضي بسقوط المطر؟ ولماذا لا نرى الأطفال تخرج بملابسها لاستقبال مياه الأمطار، لا تخشى البلل وتجمع الماء لوجبة العدس، كما كنا نفعل في الماضي ونحن صغار. لماذا أصبح كابوسا أن نعرف أن الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة تتوقع هطول الأمطار على مدينتنا – عروس البحر؟

في الثالث والعشرين من ذي الحجة الذي مضى، سقط على مدينة جدة قليل من الأمطار، فبثت الرعب في الكبير والصغير. أُخليت المدارس وانصرف الأطفال في ساعة مبكرة وفي وقت واحد، فامتلأت الشوارع والطرقات بالسيارات وارتفع عن سطح الأسفلت، في كثير من شوارع المدينة منسوب المياه، وتعطلت حركة المرور، وتكدست السيارات في خطوط متعرجة واصطكت ببعضها في التقاطعات وتوقفت حركتها، وتأخر الكثير من الآباء والأمهات في الوصول إلى أبنائه... وأصابنا الخوف مرة أخرى. ولا بد أنها ارتعدت فرائص من أصر على البقاء داخل الحدود الحمراء التي خطها سيل الربوع من العام قبل الماضي.

بعد كارثة الأربعاء الأولى في ذي الحجة من عام 1430، ظننا أنه سيتغير الحال، إذ خرج المسؤولون، يعدون ويتحدثون عن مشاريع لحماية مدينة جدة وسكان مدينة جدة وأطفالها وشيوخها والنساء. فتحت الدولة خزائنها بأمر من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، الذي تابع الأمر بشخصه يحفظه الله، وتدفقت الأموال،... واستبشرنا. واليوم، بعد عام من تاريخ الكارثة، يأتي سيل آخر وينفث الذعر في سكان المدينة.

تحقق تجفيف بحيرة الصرف الصحي، التي ملأت مقالات المختصين والمهتمين البيئيين الصحف نقدا وتجريحا لما تم تنفيذه والأسلوب الذي تم الأخذ به. هذا الإنجاز "العظيم" الذي تتغنى به شركة المياه الوطنية وتتفاخر، وتسبب في تلوث الشاطئ، وزيادة أعداد البعوض، كان يمكن إسناده إلى مجموعة من شاحنات الصرف الصحي، والوصول إلى نفس النتيجة.

لولا لطف الله ورحمته لغرقنا مرة أخرى في شبر من ماء، بل في أقل من إصبعين منه، فما سقط يوم الأربعاء كان قريباً من 25 ملم في الشمال، و4.5 ملم في محطة مركز التغير المناخي بجامعة الملك عبدالعزيز، إلى الجنوب. وبتنا ليلتنا نترقب الخميس، الموعد الجديد لشبح السيول.

نحن ندرك أن كثيرا من هذه المشاريع يتطلب زمناً ممتدا لتنفيذه، لكن ما لا ندركه غياب الحلول العاجلة والمؤقتة التي تكفل سلامة الناس إلى حين الانتهاء من تنفيذ الحلول الجذرية، ولا يمكن الاعتماد على حظنا من ماء السماء.

لقد سجلت محطة الأرصاد بمركز التغير المناخي في جامعة الملك عبدالعزيز يوم الأربعاء 4.5 ملم فقط من مياه الأمطار، كمية ما كانت لتأخذ لها الناس المظلات في بلد آخر. وفي جدة، نتخبط هلعا، ويستغرق الوصول إلى مدارس الأطفال أكثر من ثلاث ساعات في بعض المواقع بسبب الأمطار "الغزيرة". ماذا لو جاءت هذه الأمطار أو أكثر منها خلال أيام الاختبارات النهائية؟!

وجاء الخميس من بعد الأربعاء؛ واستيقظنا على صوت الرعد وسياط البرق، وزمجرة الريح، وتجدد الرعب في القلوب.

وسقطت على مدينة جدة 45 ملم من المياه. لم تكن بحجم كارثة 1431، ولم تحصد في مدينتنا أرواحا، لكنها خربت الطريق، وأتلفت الممتلكات، وعطلت أعمال الناس.

تجاوزنا هذه العاصفة دون خسائر في الأرواح لأن ما سقط علينا من المياه كان قليلا، ولأن الناس غادرت منازلها وباتت عند أقاربها، وأبعدت سياراتها، بناء على إرشادات الدفاع المدني، التي حققت النتيجة المرجوة. تجاوزنا الأزمة لا لأنا كنا على أهبة الاستعداد، ولا لأننا بنينا السدود وقنوات التصريف، وأعدنا تخطيط الأحياء التي لحقتها نكبة الأربعاء الأول! فقط لأن الماء لم يكـن بحجمه الكارثي السابق.

كيف أننا لم نعد نتعلم من تجاربنا ومن مآسينا! وكيف أننا ألفنا الضجر من الإهمال والفساد! كيف يمكن لمدينة عمرها آلاف السنين أن تغرق فيما يعتبره الآخرون من شحيح المطر؟ إلى متى ونحن نرقع ثوب مدينتنا، وتأتي السيول تكشف سوءتها؟

آن لنا أن نقرأ حالة البيئة بمسؤولية قبل أن تحصد الرياح والأمطار المزيد من أرواح الأطفال، ولا ترحم الكبار. آن لنا أن نراجع مواقفنا السابقة، ونحكم العلم ورأي المختصين في تناول قضايانا، وآن لنا أن نصغي لمن يشير إلى إخفاقاتنا، ولا نتهم نواياه. كلنا يتألم وهو يستمع إلى صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل، أمير المنطقة يروي حجم الكارثة التي سبقت الأمطار الأخيرة، ويعدد ضحايا الأمطار في مكة المكرمة، ويتألم أن يرى الأموال العامة والممتلكات الخاصة تغسلها مياه الأمطار، وتجرفها السيول إلى البحر.