الكتابة عن المرأة شأنٌ شائك، بخاصة إذا كانت هذه الكتابة فنيّة. قضايا حارّة تستدعي الصوتَ والإظهار والإعلان دون حيادٍ أو ادّعاء التوازن، أو خوف شبهة الانغماس في "قضية واحدة". زدْ على ذلك أن الكتابة في هذا الطريق استهلك أقلاما حتى الإشباع إلى درجة التشابه والنسخ، ودخول سباق: من كتبَ عن هذا الموضوع أو هذه الظاهرة، أولا؟.. وهذا وحده رهان صعب، وخوضُهُ يستلزم أن تكون المقاربة فنيا بالفعل وليس بمجرد الاسم تحت مسمّى لون أدبي من شعر ورواية وقصة قصيرة.

فاطمة عبد الحميد في مجموعتها القصصية "كطائرة ورقيّة" الصادرة عن نادي المنطقة الشرقية الأدبي، حققتْ الشرطَ الفني في تناول ليس موضوع المرأة فقط ولكن أيضا في وَصْلِه بعالم الطفولة.. حيث يتبدّى الإنساني، الذي يخرج على الجغرافيا وسائر المحددات، في نقصه المؤلم؛ في الثغرة العاوية.. الجرح المفتوح في جسد المجتمع، تتعاوره الأيدي بكثيرٍ من القسوة. تلك الأيدي التي تصافح، وربما تحنو، غير أن قبضتها في النهاية تغلق النوافذ وتسحب الهواء.

نعرف جميعا، مثلاً، قضية تزويج القاصرات التي تناولتْها الأقلام الصحفية وتطرقت إليها بعض الأفلام القصيرة. فاطمة في قصة "الدولاب الخشبي" تعمد إلى تناول الموضوعة ذاتها من موقع الفن وزاوية الأدب. تنأى عن المباشرة والوعظيّة. تكتفي بإشارات الظل والتنبيه إلى المفارقات. ثمة طفلة تكبر، يرهقها تسارع الجسد إلى النضج بعلاماته الظاهرة، لكنها لم تزل مشدودة إلى طفولتها وتريد عيشها رغم خذلان الجسد الفائر. الأم بخطوات عمليّة تفطمها من ألعابها فترفع دميتها عنها فوق الدولاب الخسبي، بعيدا عن مطال اليد الصغيرة. الطفلة تفزع إلى الأب تشكو اشتياقها إلى هالة؛ دميتها. ينصحها الأب بأن تأكل حتى يسعفها جسدها بإحضار ما تخفيه الأم عنها، وفي باله خطّة تفضحها الغمزة المتواطئة مع الأم.. (اتبعت نصيحة أبي، أكلتُ كثيرا ورسمت علاماتٍ لطولي على الجدران). ويوم فرحتها أنها أصبحت بالقرب من دميتها وتستطيع إنزالها؛ تبغتها الأم بإنزال شيءٍ آخر؛ الحقيبة التي ستمتلئ بثياب عرسها (فالعريس مستعجل والزواج خلال أسبوع). وهذه هي المفارقة الفنية، ففيما الطفلة تسعى إلى استعادة طفولتها المعلّقة فوق الدولاب الخشبي؛ فإن العائلة تنفّذ خطّتها السريّة لتزويجها: (في ذلك الأسبوع لم أكبر، ولم تضق ملابسي، على العكس اتّسعتْ كثيرا.. في ذلك الأسبوع لم أرسم علامات لطولي لعلمي أنّي تقزّمتُ إلى الأبد!!).

الاقتلاع من الطفولة يظلّ هاجسا مخامرا لأكثر من قصة. تذهب الحياة في مساراتها ومعها تتراكم الغصّات المدفونة في الصمت، فتبحث عن مخرج تنفيسي يقع ما بين الوهم والحقيقة كما في قصة "الماسنجر".. أو تبتكر ضفة بعيدة عن الأعين تهرق فيها بوحها لعلها ترتاح من (وجع الصمت) على النحو الذي نجده في قصة "الظرف"؛ الجهة التي ستشرب الكلام وتخفيه.

.. غير أن القضية أكبر من أن يحتويها "ظرف": (... ظرفك امتلأ ففاض دخانه).