منذ ابتدأت ظاهرة الإرهاب لدينا ووزارة الداخلية انطلاقاً من مسؤوليتها تواصل الجهود للتوصل لأسباب الظاهرة بغرض معرفة الوسائل المناسبة لمواجهتها. وقد استعانت في هذا بمجلس الشورى وبالجامعات ـ وفق ما أعرف ـ وهناك بالتأكيد الكثير مما لا أعرفه، والمفروض أن الوزارة بعد كل هذه السنين، وكل هذه الجهود قد توصلت إلى نتائج دقيقة عن أسباب الظاهرة مبنية على حقائق لا يرقى إليها الشك.

لذلك فعندما لمحت ذلك الخبر المهم الذي وضعته "الوطن" في صدر صفحتها الأولى على أربعة أعمدة بعنوان "الداخلية: لا ضلال في المناهج" ثم بدأت أقرأ الخبر المأخوذ عن محاضرة ألقاها مدير عام إدارة الأمن الفكري في وزارة الداخلية الدكتور عبدالرحمن الهدلق خلال ندوة "استراتيجية الأمن الفكري"، ("الوطن" الثلاثاء قبل الماضي) عن أسباب ظاهرة الإرهاب كنت شبه متيقن أن حديث الدكتور عن أسباب الظاهرة ناتج عما توصلت إليه الوزارة خلال جهودها الماضية، ولذلك فإني بعد أن واصلت القراءة بدأت أواجه سلسلة استغرابات، أولاً من استخدام الدكتور الاستنتاج في أحكامه وليس الأدلة القاطعة، وثانياً من غرابة الأحكام التي يصدرها، وهذا جعلني أتساءل عما إذا كان ما أورده مدير عام إدارة الأمن الفكري في الداخلية هو ما توصلت إليه الوزارة فعلاً.

الدكتور أصدر حكماً جازماً في البداية كما نقلت "الوطن" (بتبرئة المقررات والمناهج من الانحراف الفكري والإرهابي) وعندما أراد أن يدلل على ذلك لم يقدم سوى الاستنتاج فقال (إن الجرعة الدينية في المناهج في العقود السابقة أكثر مما هي عليه في السنوات الأخيرة ولم تظهر مع ذلك أي مظاهر للإرهاب أو الانحراف آنذاك). ليس غرضي إيضاح دور التعليم فيما حصل، ولكن أريد أن أوضح أن استنتاج الدكتور عبدالرحمن غير سليم، فحجم الجرعة الدينية أولاً يختلف عن نوعية الجرعة، فقد تكون الجرعة في السابق كبيرة ولكنها مأمونة، وقد يتراجع الحجم ولكن يتغير النوع إلى ما هو ضار، ثم إن القناعات الدينية غير السليمة الناتجة من التعليم قد لا تضر إلا أصحابها عندما لا تستثمر مهما كانت فادحة الضرر، وقد تؤذي أمة بكاملها حتى لو كانت قليلة الضرر عندما يتم استثمارها على نطاق واسع، فالقناعات الدينية مثل الأرصدة المالية، عندما تبقى في البنوك دون استثمار فإنها تبقى على حالها، وعندما يتم استثمارها بشكل جيد فإنها قد تتضاعف سنوياً فتتحول الآلاف إلى ملايين، والمفروض أن يكون الدكتور عبدالرحمن أول العارفين أن القناعات الدينية تستثمرها السياسة ويستثمرها الأذكياء المغامرون من أصحاب الطموحات الكبيرة، أي أن شبابنا الآن مع الأسف يمثلون بالنسبة لبعض الدوائر الاستخبارية الإقليمية والدولية ولبعض أصحاب الطموحات السياسية الكبيرة أرصدة مالية يستثمرونها، وبالتأكيد فنحن الذين حولناهم إلى أرصدة قابلة للاستثمار، وأيضاً نحن الذين لم نستطع تزويدهم بجرعات التطعيم التي تقيهم من الاستغلال، أما كيف حصل ذلك فالمفروض أن يكون الدكتور عبدالرحمن بحكم عمله هو سيد العارفين.

كما ذكرت ليس غرضي الآن مناقشة دور التعليم، ولكني أريد القول إن التأثير على الفكر لا يكون إلا بفكر، وأن التعليم هو المصدر الرئيسي لتغذية العقول، وأعرف أن ما لدينا من فكر ـ بالنسبة لكل تياراتناـ هو في الأصل ناتج من التعليم ثم تطور بفعل الجهود الذاتية وطبيعة تكوين العقل، ولذلك فمن اللافت أن ينفي الدكتور عبدالرحمن تأثير المقررات والمناهج الدراسية بذلك الحد الشديد من القطعية اعتماداً على استنتاج لا يصمد أمام امتحان عقلي، بل ولا يصمد أمام أمثلة التاريخ القريب والبعيد، فحادثة جهيمان كانت في الماضي الذي يتحدث عنه، وكذلك في ذلك الماضي الذي قصده كان شبابنا يتسابقون للذهاب إلى أفغانستان لمجرد أن يشموا كلمة الجهاد، فما هي يا ترى تلك المؤثرات التي أوجدت (جيل جهيمان) وأوجدت ذلك الشباب الذي كوَّن جسراً بشرياً من المملكة إلى أفغانستان آنذاك...؟

الدكتور عبدالرحمن نفى وجود أي تأثير للمقررات والمناهج الدراسية وتحدث عن الفكر المنحرف، لكنه لم يقل لنا من أين أتى ذلك الفكر المنحرف إذا كانت مناهجنا ومقرراتنا الدراسية ليس لها أي دور في ذلك، وبدلاً من أن يتحدث عن هذا الأمر المهم الذي هو لب الموضوع قدم لنا نظرية الفاءات الثلاث البالغة الغرابة (فتيان ساخطون + فلوس + فكر منحرف = إرهاب).

الذين استمعوا للدكتور عبدالرحمن أو قرؤوا مثلي ما قاله سيفهمون أن هذه النظرية تمثل ما توصلت إليه وزارة الداخلية خلال جهودها وخبراتها الطويلة عن أسباب ظاهرة الإرهاب، ولذلك فإنها ستبدو غريبة جداً لعدة أسباب.. أولاً أنها جعلت السخط، سبباً ولم توضح لماذا هذا السخط (وأتفق في هذا مع أخي وزميلي كاتبنا القدير الأستاذ قينان الغامدي في تساؤلاته المشروعة في مقاله يوم الأربعاء الماضي)، وثانياً أنها توحي، أن السخط كان من الأوضاع السياسية ولا شك أن أوضاع الأمة الإسلامية تستدعي السخط. ولكن الاحتمالات الأخرى تبقى مفتوحة، ولذلك من اللافت أن يصدر هذا من مسؤول في وزارة الداخلية. أما الأمر الغريب الثالث وهو الأهم فهو أن الدكتور جعل (الفكر المنحرف) هو الضلع الثالث لنظريته، وهذا أمر طبيعي لكن الأمر غير الطبيعي هو أنه لم يقل لنا من أين أتى ويأتي هذا الفكر المنحرف طالما أنه استبعد التعليم تماماً عندنا ولا حتى كواحد من مصادره. فلماذا طالما أن لديه كل هذه المعلومات التي مكنته من إيجاد نظرية الفاءات الثلاث لم يذكر لنا مصدر هذا الفكر المنحرف؟

سأتطوع وأكمل النقص في نظرية الدكتور بناء على ما قرأته من تصريحات عديدة سابقة من بعض زملائه أعضاء لجان المناصحة، فقد كانوا يتفقون تقريباً مع الدكتور عبدالرحمن في استبعاد المناهج ويقولون إن مصدر الفكر المنحرف، أو على الأصح أغلب مصادره هي الإنترنت، ولذلك فالمفروض كي تكون نظرية الفاءات الثلاث مكتملة أن تكون هكذا "شباب ساخطون + فلوس + فكر منحرف بتأثير الإنترنت = إرهاب" .. فهل هذه النظرية التي أكملتها هي خلاصة ما توصلت إليه وزارة الداخلية خلال جهودها الطويلة وبحثها المضني عن أسباب الإرهاب...؟

من اللافت جداً أن تكون الفلوس عاملاً من عوامل السخط والتشدد الديني والخروج على الأهل والمجتمع، لأن المعروف أن العكس هو الصحيح، فالفلوس من أهم عوامل الرضى والاستكانة، والابتعاد عن المغامرات، والركون للدعة والراحة، ولا شك أنه قد يوجد أشخاص ساخطون لديهم فلوس، ولكن هؤلاء في الغالب هم أصحاب الطموحات السياسية، ثم إنه حتى على افتراض وجودهم من غير هؤلاء فلا بد أن يكونوا قلة لا يمكن أن يشكلوا قوام نظرية.

وعلى أي حال فإذا كان ما طرحه علينا الدكتور عبدالرحمن وما صرح به مراراً بعض أعضاء لجان المناصحة عن مصادر الفكر المنحرف المتمثلة في الإنترنت يمثل ما توصلت إليه وزارة الداخلية فالمفروض أن تعلن الوزارة هذا بشكل صريح وواضح توعية للناس وتبصيراً لهم، ولكن لي ملاحظة صغيرة، وهي أن أصحاب الفضيلة أعضاء لجنة المناصحة لديهم علم شرعي كثير، ولكن ليس لديهم خبرة في استخلاص المعلومات بطريقة الحوار والاستبيانات بغرض التوصل إلى النتائج، وخير من يقوم بهذه المهمة متخصصون في البحث العلمي في علم النفس والاجتماع، ولو تم تكليف مجموعة بحث من هؤلاء لمقابلة مئات الموقوفين في السجون والتحاور معهم وأخذ المعلومات واستخلاص النتائج لربما توصلوا إلى النتائج الدقيقة، وبالإضافة لهذا فإن أصحاب الفضيلة، أعضاء لجنة المناصحة الذين يقومون بدور كبير مشكور لا شك أنهم محسوبون على الجهة التي وضعت المناهج الدينية وبالتالي من الظلم لهم أن يطلب منهم استخلاص نتائج قد تدين جهودا هم الذين قاموا بها في الأصل، والمفروض أن تقوم بهذه المهمة أطراف محايدة لتكون النتائج محايدة.