كان الحريق الذي التهم جسد محمد بوعزيزي واسعا ومدفوعا بقوة سمحت له أن يتجاوز ذلك الجسد المنهك ليصل إلى كل الشوارع والأحياء في تونس، لتندلع ثورة عربية حقيقية هي الأكثر من بين كل الثورات العربية انتماء للشارع وانطلاقا منه، ففي مختلف الثورات التي شهدها التاريخ العربي الحديث كان الناس مستقبلين فقط ولم يكونوا مؤثرين أمام ما تقوم به النخب العسكرية التي كانت تدعي مساندة الشارع وأنها تنطلق من صوته وطموحه، لكن جانبا آخر هو الأبرز في ثورة تونس وهو أنها لا تحمل أية ملامح إيديولوجية أو حزبية، بل هي ثورة مدنية تطالب بالحقوق وترفض الاستبداد، دون أن تبحث عن مرجعية سوى مرجعية القيم المدنية فقط التي تحول البحث عنها والمطالبة بها إلى حفز شعبي للثورة والتغيير.
قبل عشر سنوات من الآن أو أكثر لم يكن ممكنا أن نشاهد تونس وهي تزحف باتجاه التغيير كما حدث الآن، وكلما توغلنا في الزمن للخلف استحال لدينا ظهور مثل تلك الانتفاضة، ذلك أن الوعي الشعبي العام آنذاك كان أقل من وعي السياسي، وسطوة الشعور العاطفي المؤمن بالرمز ومكانته وقوته والحاجة إليه كانت عوامل تشكل وجدانا جمعيا لا يفكر أصلا في أنه يمكن أن يوقد التغيير ناهيك عن أن يفكر به، لكن المعادلة تغيرت حضاريا، وشعوب المنطقة العربية باتت تملك وعيا يتأثر ومسؤولية تتأثر يما يحدث في العالم من حولها، وعي دعمته ثورة المعرفة والاتصالات والمعلومات التي كان من أبرز نتائجها إنهاء فكرة الحصار والتحكم والصوت الواحد والمنبر الواحد، وهو ما ساعد على أن يصبح وعي الشارع أعلى من وعي السياسي.
هنا تبدأ معادلة تنتهي بنتيجة لا بد فيها من المواجهة وذلك حين يصبح وعي الشارع متقدما على وعي السياسي، كما حدث في تونس، إذ يتحول السياسي من عامل استقرار ونهضة وإقامة للحقوق إلى عبء على الناس وعلى طموحهم وعلى حقوقهم، ومتى ما حدث ذلك التفاوت في الوعي بين الشارع وبين السياسي تتحول المواجهة هنا إلى قيمة ومصير، قبل أن تكون فكرة، وفي التاريخ السياسي العربي الحديث كانت النخب السياسية نخبا تقدمية مقارنة بمختلف الأوساط الاجتماعية وواجهت مختلف أشكال الأصولية والطائفية والإيديولوجية واستطاعت أن توجد خطابا وطنيا قطريا، لكن بمجرد أن استيقظت الأجيال الجديدة من الشعوب العربية وجدت أن ذلك الخطاب لم يكن معنيا بها ولا بطموحها وإنما بتمجيد نخبها الحاكمة، تلك التي تعلن على رأس كل انقلاب عسكري أنها ليست سوى ثورة باسم الناس، بينما أثبت الواقع أنها ليست كذلك.
ما حدث في تونس لا يمكن أن يصلح لغيرها من بلدان المنطقة على الإطلاق، فمن إيجابيات الأنظمة التي تعاقبت على تونس أنها كانت علمانية استطاعت أن تجفف كل منابع الانتماءات التي تقع خارج دائرة الانتماء القطري الوطني، وفي أحايين كثيرة كان يتم ذلك بكثير من المبالغة والظلم والتعسف، إلا أنه وبالنظر إلى واقع دول المنطقة العربية وما تشهده من انبعاث للطائفية والانتماءات الصغرى يمكن القول إن ما حدث في تونس لو تكرر في أي بلد عربي آخر فسيكون وبالا على الناس وعلى الدولة، والتجربة العراقية دليل واضح على ذلك.
في المنطقة العربية، وحيث يعيش الناس في مستويين من الحكومات: الحكومات الملكية، والحكومات التي تعلن ذاتها جمهورية ديموقراطية، واقع التجربة والتاريخ يؤكد أن مختلف الدول ذات الأنظمة الملكية أكثر استقرارا وتطلعا وحيوية من غيرها، ففي حين يعيش كثير من الدول التي تعلن أنها جمهوريات ديموقراطية هاجس الشرعية والاستمرار لنخبها الحاكمة، نجد أن دول الحكومات الملكية لا تعيش ذلك العبء، ولديها نظامها الواضح في طريقة انتقال الحكم وجهته ومصيره، مما يجعلها تتفرغ للبناء والتنمية وإدارة شؤون الحياة والناس بما يلائم متطلبات المستقبل، في الوقت الذي تنشغل فيه الحكومات ذات الرداء الديموقراطي وتصرف جل اهتمامها للحفاظ على تلك المفارقة بين واقعها السياسي وبين ما تعلنه وما تتسمى به، حيث تصبح مطالب الجمهور بالتغيير والانتخابات وتغيير القيادات مطالب مبررة وشرعية، نظراً لأن الدولة أصلا قائمة في ذاتها على نظام انتخابي تديره وتحدد مصيره أصوات الجماهير، ولعل ذلك من أسباب تراجع التنمية وازدياد التفكير بالضبط السياسي والأمني.
الجيل الذي رافق ولادة الحكومات الجديدة في المنطقة العربية منذ قرابة ثلاثين عاما، لم يعد مؤثرا ولا فاعلا في تشكيل الرؤية والتوجهات الاجتماعية في تلك الدول، لقد حضر جيل جديد يبدو أن الساسة لم يلتفتوا إليه بما يكفي، ولم يستوعبوا العوامل الجديدة التي أسهمت في تشكيله وتنشئته، ولا مدى تأثره بالعالم من حوله، الأمر الذي يعني أن الشباب الجديد في المنطقة هم جزء من العالم، وليسو جزءا من تلك الأنظمة.
إن الأزمة مع الأجيال الجديدة تبدأ حينما يجدون كيف بات السياسي عبئا على حياتهم، وأنهم ما زالوا ينشغلون بقضايا قد تجاوزها كل العالم إلا هم، حينها يبدأ التفكير والموازنة بين انتماءاتهم للحياة وانتمائهم لأنظمة لا تمثلهم.