لو تأملتم المشهد التونسي قبل الانهيـار الكبير المفاجئ لوجدتموه مثل مشهد برجي التجارة العالمية في نيويورك، قبل الانهيار الكبير المفاجئ. في يوم 10 سبتمبر.. كان كل شيء هادئا.. ثم في اليوم التالي حصل الانهيار... ولو تأملتم المشهدين أثناء الانهيار لوجدتم تماثلاً في التداعي السريع بفارق واحد، وهو أن البرجين قد انهارا بصدمة عنيفة من طائرتين عملاقتين غاصتا في أعماقهما وأحدثتا الانهيار، في حين أن المشهد التونسي لم يحصل له شيء من ذلك، كل ما في الأمر أن خرزات المسبحة تحركت وحدها وهي في أصابع (الزعيم).. كان يحركها بأصابعه طيلة ثلاث وعشرين سنة، ولكن هذه المرة بدأت تتحرك وحدها فأصابه الفزع الشديد، ثم انقطع خيط المسبحة فجأة، فانطلقت الخرزات في مختلف الاتجاهات، وبدأت تكبر في عينيه حتى تحولت كل واحدة منها إلى (العملاق) في الحكايات الشعبية فكانت حالة رعب شديد هرب إثرها من المشهد المخيف.

الأصل في الدول الحديثة أنها مجموعة من البشر يعيشون على مساحة من الأرض يختارون من يدير شؤونهم العامة ليتفرغوا هم لشؤونهم الخاصة، ويستقطعوا من دخلهم مبالغ للذين يعملون في الشأن العام، ولذلك لا يرد أصلاً في ذهن أي أحد هاجس اغتصاب منصب عام أو الاستمرار فيه رغماً عن إرادة الآخرين، ولا يخطر في أذهان العاملين في المناصب العامة ـ إلا في النادر ـ هاجس الاستفادة غير المشروعة من منصابهم العامة، لأن النتيجة معروفة لو حصل هذا، ولذا تستقيم الأمور ويصبح العاملون في المناصب العامة مجرد أجراء عند الآخرين في الدولة، أما في الدكتاتوريات فينتفخ فيها الزعيم حتى يصبح أعلى من برج إيفل ويصبح الناس في نظره مجرد خرزات مسبحة ينظمها في سلك ويحركها كيف يشاء، وتصبح الدولة بكل ما فيها هي رصيده الكبير يتحكم فيها وتصبح أداة التسلية والترفيه عن النفس عنده تلك الخرزات الصغيرة التي يحركها عندما يشاء بإصبعيه لتقول شبيك لبيك.

قبل ثلاثة وعشرين عاماً كان خيط المسبحة التونسية قد تآكل كثيراً بفعل العمر الطويل لـ(الزعيم) ولكن المسبحة مع هذا كانت بين أصابعه، واستثمر (المصلح الجديد) الحالة فأمسك المسبحة وسحبها من يده برفق، ثم استبدل خيطها بالتدريج بخيط آخر من النايلون القوي لتنتهي بسرعة عملية الإصلاح المزعومة، ثم بدأ يحرك خرزات المسبحة على هواه، وبعد مضي كل ذلك الزمن الطويل كما قلنا فوجئ بخرزات المسبحة تتحرك وحدها، ثم انقطع الخيط أو هيئ له أن هذا سيحدث فنهض من مكانه بسرعة وهرب من الساحة خوفاً من العواقب.

ما حصل في المشهد التونسي حصل مثله في دول دكتاتورية أو باختلاف كثيـر أو قليل، وبالنسبة للعالم العربي كانت خـرزات المسبحة تتحرك بين آن وآخر، كانـت هناك محـاولات للنهوض ولكن في كثير من الأحيان تعود (ريمـة لعادتهـا القديمة) فيتحـول (المصلح) بسرعة إلى (زعيم جديد) ويلـم الخرزات وينظمها في خيـط قوي ويعيدها إلى الحجم الصغير السابـق، وما نراه الآن في المشهد التونسي أن خرزات المسبحة قد تخلصت من الخيط وبدأت كل واحدة تكبر وتعود إلى حجمها الطبيعي، وذلك البرج العالي العملاق اتضح أنه برج من ورق فانهار في غمضة عين، وهناك محاولات الآن للسير بالبلد إلى مسارات الدول الحديثة بحيث يكون الناس (سواسية كأسنان المشط) ويكون العاملون في الشأن العام أجراء عند الآخرين وتنتهي كل مظاهر الوجل والخوف والخضوع والاستعباد ويتفرع كل للعمل والإنتاج والإبداع بحرية في إطار القانـون... فهل يحصل هـذا.. أم يبرز شخـص جديد يظل ينتفخ حتى يصبح مثل برج خليفة في دبي ويقمع الناس ليعودوا للحجم الذي يريد ويكونوا خرزاً لمسبحته ينظمهم في السلك الجديد فيكون هو العملاق العظيم وهم خرزات المسبحة التي يضعها بين أصابعه ليحركها كيف يشاء...؟

أمر واحد يطمئن وهو سلوك الجيش التونسي فقد كانت الفرصة مواتية له ليصبح هو (الزعيم الجديد) كما حصل في دول أفريقية، ولكنه لم يفعل. ولذلك فهو جدير بالشكر والثناء من التونسيين ومن غيرهم ممن يتطلعون إلى واقع أفضل.

كم هي متواضعة رغبات هذا الإنسان البسيط.. يريد أن يسكن ويأكل بكرامة.. ويضغط على نفسه إذا توفر له الحد الأدنى من هذا فيظل عشرات السنين خرزة في مسبحة الزعيم.

أما حين يفقد حتى لقمة العيش كما يحصل كثيراً فحينئذ يحصل المحذور، وكم هي متعالية مكلفة نرجسية رغبات بعض السياسيين.. لا يكتفون ولا حتى بعد أن يصبح الواحد منهم.. قاتلاً أو مقتولاً.