الخبز لغة عالمية لا تفنى أبداً إلا بفناء البشر، لكن مشكلة البعض أنهم لا يعترفون بتلك اللغة! أو بالأحرى لديهم صعوبة مقصودة في تهجي اللغة الأهم عبر التاريخ.

العقلاء في كل العالم يعترفون بأن الخبز هو إحدى اللغات الحية والمؤثرة والمفصلية في حياة البشر، وأنه لا يمكن لأي شعب أن يعيش دون خبز، ودون حرية، ولذلك يتصالحون مع الخبز باستمرار، ويتفاوضون بتعقل على مساحة الحرية الممنوحة للشعوب.

في العالم العربي أيضاً ثمة لغة قوية ويومية للخبز قد تأتي على الأخضر واليابس حينما لا يفهم معناها أهل السياسة إلا وهم على حافة الضياع، والفهم المتأخر مشكلة كبيرة، وهي لغة مخيفة جداً لا يمكن التنبؤ بما قد تفعله إن لم يتم التصالح معها في الوقت المناسب، ونحن جميعاً نلمسها واضحة في أكثر من بلد عربي يعاني من الفقر والغلاء.

أهل تونس اتحدوا حول لغتهم/ لغة الخبز بشكل مذهل، وبالتالي لم تفلح لغة الرصاص المستورد في خرق اللغة الأم والتشويش عليها، وليست مشكلة الشعوب أن يصاب أهل التصويت بداء الفهم المتأخر، أو العجرفة المتأصلة.

اليوم ينام الشابي قريراً في قبره، بعد أن استجاب القدر لكل التونسيين، وسيصبح (محمد البوعزيزي) الشاب الذي أحرق نفسه غيضاً ليشعل شرارة التغيير رمزاً تونسياً فارع الطول وربما عربياً أيضاً، وعلى العرب مراعاة البدء في تهجي لغة الخبز قبل خراب مالطا، فالدرس هنا ليس للشعوب العربية فهي تعرف الكثير، وربما يكون بعضها على وشك الانفجار لأسباب معروفة لأقل الناس دراية بالشأن العربي العام، لكن الدرس للذين لا يعترفون بلغة الخبز، ولا حتى بجرعات الحرية الضرورية للحاق بالعصر، بل يظلون يعتقدون حتى اللحظة الأخيرة أن الشارع العربي هو نفسه شارع السبعينات والثمانينات والتسعينات المستكين والمغلوب على أمره، الذي كان يبدأ نهاره بوعد إصلاحي، وينام على خطاب زعيم ينقض ما قبله، ولا يحتج ولا يتنفس إلا بإذن أو قرار منه.

الدرس اليوم يقول باختصار: إن أي شعب جائع لا يصدق أبداً وعود الإصلاح وإن كثرت طالما أنها لا تأتي أبداً، ولا يؤمن بحكايات الحرية المتدرجة إن تأخرت عن وقتها وحاجتها، وإن خياراته ومعلوماته السياسية ربما أكثر من المطلوب بكثير، وإنه لم يعد مجدياً مع وضع كذاك أن يستمر المتنفذون العرب على نفس الطرق القديمة في معالجة مشاكل التنمية والفقر والمشاركة السياسية والشفافية التي تجاوزتها كل شعوب العالم المتحضر، إذ أصبح أغلب الشباب العرب يعرفون منذ زمن طويل أن المواطنة الحقيقية لا تستقيم إلا بتفعيل ثقافة الحقوق والواجبات.

بمعنى آخر: أعطني حقي وسأكون مواطناًً صالحاً أقوم بواجباتي على أكمل وجه. مثل هذه المعلومة البسيطة تشكل فارقاً حقيقياً لهم وتغني عن ألف شعار!

مع ذلك فشق المعادلة الأول غائب تماماً في بعض البلدان العربية، أو انتقائية صرفة في بعضٍ آخر، وهنا يمكن أن نرى أكثر من ثورة. والشيء الجميل واللافت في معجزة تونس أننا لم نسمع عن البيان العسكري رقم واحد، وهذا تطور نوعي يحسب للجيش التونسي، مما يعني أن الوعي أصبح متطوراً للغاية، وحتى لو كان الجيش يدير اللعبة من خلف الستارة لا سمح الله، إلا أنه يعرف بالتأكيد مدى ملل الشعوب من البيان رقم واحد ولذلك آثر عدم الظهور، هذا إن كان فعلها كما يقول البعض، أما الشيء المضحك والمبكي في آن فهو المعارضة التونسية في الداخل والخارج التي ظلت صامتة حتى اللحظات الأخيرة، ولم تشارك بأحزابها الكرتونية أبداً، وعندما تأكدت من خلو الجو قفزت إلى العربة مباشرة لسرقة جهد الآخرين كالعادة، وكأنها هي التي كانت تحرك الأحداث، مع أن أغلبها كبقية المعارضات العربية التي تنتظر العودة على ظهر دبابة أجنبية، ولا تعرف لغة الخبز بفضل مطبخ الأجنبي، حفظ الله تونس وأهلها.