يقول زميلي الملتحي: رحم الله محمد البوعزيزي، فوالله يا أبا سارة إني سعيد بأن الأمة الإسلامية التي لطالما اتهمناها بالسبات قد أفاقت من سباتها، لأجيبه بحماس أشد: الكرامة يا صاحبي عند الإنسانية جمعاء وهي صنو الحرية، والأمر تجاوز مسائل الخبز والحليب، من سبارتاكوس إلى سعيد بن جبير حتى غاندي، ثم ذكّرته بحكاية ذلك الباشا في العهد العثماني عندما كان يستأجر الكثير من الفلاحين في مزارعه الواسعة، وعندما تذمر الفلاحون من طبيعة العمل عنده، قام وجمعهم وعندما عرضوا عليه مشاكلهم مع أعوانه من مشرفين ومراقبين، همهم قائلا: آممممم تريدون زيادة في الأجور!؟!، عندها قام ابن أحد الفلاحين وقال: لا يريدون زيادة في الأجور بقدر ما يريدون كرامة في التعامل معهم يا باشا.
أمثال الباشا يظنون أن مفاهيم الكرامة والشرف والحرية تخصهم وحدهم، ولهذا فمما يروى في تاريخ المقاومة العربية ضد الفرنسيين في سورية أن أحد السياسيين رغب في أن يثني رجاله عن مقاومة الفرنسيين عند دخولهم سورية، فأجابوه بأننا نعلم ضعف عتادنا أمام الفرنسيين، لكن المسألة مسألة شرف، فأجابهم: (الشرف يعود للوزراء لا للجنود) وهذا ما جعل وزير الدفاع يوسف العظمة يقرر الموت شهيدا مع جنوده كحالة استثنائية. راجع جريدة العراق عددها الصادر في 19 نيسان 1930م.
من عام 1930م وحتى 2011م ما الذي تغير في الواقع العربي؟ ومن هم أولئك الذين لم يشعروا بالتغير؟ أما الذي تغير فهو الطابع العولمي الذي رفع من معاني الفردانية والحرية لدى البشرية جمعاء، لتقف العولمة في صف محمد البوعزيزي ذي الستة والعشرين قمطريرا، كجامعي يعمل بائعا متجولا، فتعطيه زخما إنسانيا يعترف له بالجميل في دروس الشرف والكرامة، دون الحاجة لزعيم ثوري، أو نظام يسرق دماء المؤمنين بقضاياهم، فيجيرها لصالح أسطورته، وتاريخه اللزج بدماء شعبه.
الذي تغير في الدنيا هو التاريخ القديم مسطرا بأيدي المنتصرين، من الزعماء المظفرين والثوار المنقلبين، لتسطره الشعوب في تاريخها الحديث من خلال بائع متجول لأنتلجنسيا مسحوقة، معلنة شعار الكرامة والحرية لكل الناس دون تصنيفات.
أما عن الذين لم يشعروا بتغير الشعوب، فقد نسوا أن نضج الشعوب التي ناضلت لطرد الاستعمار رغم جبروته وعتاده لتحصيل استقلالها، قد بلغ الآن مستوى يجعل أبناء مناضلي الاستعمار القدامى يناضلون من جديد ضد أولئك المستبدين من بني جلدتهم، الذين هم أضعف وأقل شأنا من المستعمر، ولكنهم أشد مراسا، إذ يسلبوا حرية الشعب به، إذ هم منه!!.
هل هناك من نسي معاني النضج البشري، مدفوع الثمن، بدماءٍ خلقت ذلك المزاج الإنساني بعد الحروب العالمية لأجل حق الشعوب في تقرير مصيرها؟ هل يعقل أنهم نسوا أن هذا المزاج العالمي قديما جعل فرنسا تتنازل عن مستعمراتها، لا قلة في عتادها، وجعل بريطانيا تتخلى عن إمبراطوريتها الكبرى لا ضعفا في إمكاناتها!؟، هل نسي المستبدون أن المزاج العالمي الآن أصبحت مقاييسه لحقوق الإنسان أعلى من مفاهيم ديموقراطية تعطي السياسي حق الاستبداد بالأغلبية، تحت لوحات مزيفة لانتخابات جمهورية تحكم على الشعب بالرئيس المؤبد!؟!!.
كان نضال العرب ضد (العثمانيين المسلمين) ثأرا ضد الاستبداد، الذي طالهم بحرقه لجثثهم إلى تعليقها على "الخازوق"، كسرا لكرامتهم وامتهانا لأرواحهم، كان نضال العرب يلبس ثوب القومية حينا وثوب الدين حينا آخر، لكن الجسد الحقيقي الذي لم يتبدل تحت هذه الثياب مختلفة الألوان هو جسد الحرية وروح الكرامة الإنسانية التي جعلت محمد البوعزيزي يشعل نفسه.
الشعب العربي منذ حركات الاستقلال استطاع أن يحقق حلمه في أن يحكمه رجل من بني جلدته، وها هم أحفاد المناضلين القدامى يبدؤون من جديد ليحددوا نوع وطريقة ومدة هذا الحكم.
ختاما: أرجوك يا صديقي الملتحي... كف عن الصراخ بأمجاد العثمانيين لمجرد "يافطة" (الخلافة الإسلامية)، أرجوك يا ابن عمي المغترب... كف عن الصراخ بأمجاد الغرب لمجرد" يافطة" (الحضارة والمدنية) فلقد بدأت الشعوب العربية تشعر بخطوات العزة والكرامة الإنسانية التي لا تحتاج ليافطات وإيديولوجيات فقد فهمها حتى من عاش بائعا متجولا، ومات رمزا للانتلجنسيا المسحوقة، إنه (محمد البوعزيزي).
يا (محمد البوعزيزي) لقد قيل عنك من فم السياسي عند اشتعالك: (هذه مجرد حالة فردية) أي أنها لا تعني شيئا، أظنه الآن يعلم يقينا أنك تعني كل شيء... كل شيء، لقد صرت قبسا، وأصبحت روحك حريقا.