ما هو الخيط الرفيع الواصل بين قصتي، التونسي الشاب البوعزيزي، والأميركية السمراء روزا باركر؟ العنوان الرابط ما بين القصتين هو أن الفرد يأتي قبل الجماعة في حركة التغيير وأن حركة التغيير الجمعية الاحتشادية تطغى دائماً على المبادرة التي دائماً ما يكون محورها ومحركها قصة فردية خالصة. كل ما حدث في تونس كان ـ مجرد صفعة ـ تحولت إلى ثورة، تماماً مثلما كان في ألاباما الأميركية: امرأة ترفض القيام من مقعدها في الحافلة، ثم يتحول السلوك الفردي إلى ثورة اجتماعية لافتة. قبل 56 عاماً، وفي مدينة بيرمنجهام بولاية ألاباما الأميركية، صعدت امرأة سوداء إلى حافلة النقل العام ثم جلست على أول مقعد شاغر بالحافلة ثم رفضت أن تترك المقعد لأول رجل أبيض يصعد إلى الحافلة مثلما تقتضي قوانين التمييز العنصري السائدة رسمياً (وبالقانون)، وللمفارقة المضحة، في أميركا التي تتبجح بإرث وعمق الحرية. قاومت روزا باركر كل أنماط الضغط وكانت أول ـ ملون ـ يتمرد على هذه القوانين. أخذوها لمركز الشرطة وهناك تعرضت ـ لصفعة ـ حركت ثورة عارمة. دبت كل أشكال التمرد والفوضى والعصيان المسالم والعنيف في المدينة، ومن ثم الولاية، ومن بعدها كل الدولة تعاطفاً مع امرأة تعرضت لصفعة. ابتدأت كرة الثلج عبر أفراد تمردوا معا (من بعدها) على عنصرية القانون. الأفراد يتحولون إلى عشرات ثم مئات إلى آلاف انتهت بحشود الملايين. وأخيراً تحولت ـ صفعة ـ روزا باركر إلى قرار من المحكمة الأميركية العليا بإلغاء قوانين الفصل العنصري. وبالطبع لا يمكن مقاربة قصة الشاب التونسي بقصة روزا باركر في الحجم أو النتيجة. الأخيرة أشعلت قصة المساواة والعدالة الاجتماعية لتتحول إلى قانون ـ كوني ـ فيما ـ البوعزيزي ما زال بطلاً ولكن في مساحة مكانية واجتماعية محددة. يتشابه البوعزيزي مع ـ روزا باركر ـ في العنوان: قصة الفرد المطلق حين يتحول لثورة اجتماعية شاملة. في الصفعة التي أشعلت ثورة. قاوم الشاب التونسي شرطية في ناصية الشارع العام، وفي مدينة هامشية ثانوية، حاولت سحب عربة الخضار التي يعيش منها وحينما رفض الاستسلام للقانون البليد تلقى ـ صفعة ـ من يد ناعمة. حاول البوعزيزي أن ينتصر ـ لخدّه ـ بالقانون فحكمت دوائر الشرطة بمصادرة العربة وتأييد موقف ـ امرأة البوليس ـ وهنا عاد البوعزيزي لذات مكان الصفعة ثم دعا الحشود وصب على نفسه البنزين وفي ثنايا المشهد الدرامي الحزين تحول الفرد إلى ثورة. هنا تكمن الرسالة الكبرى التي تستحق الالتقاط: لا تحتاج ـ سيكولوجية الجماهير ـ إلى إرهاصات ضخمة وقد لا تحتاج إلى عمل وأدبيات وتراكم حراكي ضخم. قصة صغيرة هامشية ثانوية قد تستطيع أن تعمل ما لا تعلمه وتعمله تنظيمات اجتماعية نسقية أو أحزاب مجتمعة. الشرطي الأميركي في بيرمنجهام الأميركية ظن أنه سيؤدب كل الملونين وينهي كل مطالبهم بصفعة واحدة، فإذا هذه الصفعة الحمقاء تعطي هؤلاء المضطهدين بوابة هائلة فتحت ولن تقفل. الشرطية التونسية في مدينة سيدي بوزيد ظنت أن صفعة شاردة هي التي ستعيد الانضباط إلى الشوارع الملتهبة تحت الرماد فإذا ـ الصفعة ـ الشاردة تنفخ الجمر الذي اشتعل ولن يطفأ. وكل ما تعلمته من الدرسين في القصتين أن أستعيد قراءة ـ توينبي ـ في كتابه الأشهر: سيكولوجية الجماهير. يجادل توينبي أن الحركة الجماهيرية الشاملة هي الوقود بينما تقول القصتان إن الفرد هو المبدأ. يجادل توينبي على حتمية الحراك الجمعي الضخم الشامل بينما البراهين تشير إلى جوهرية الفرد. من ألاباما وروزا باركر حتى سراييفو حيث كان الفرد مشعل الحرب الكونية الثانية على ساحة ـ تيان مين ـ الصينية حيث كان الطالب ـ شون مين هو ـ هو الوقود إلى تونس حيث ـ البوعزيزي ـ فرد أوحد ينتهي باحتشاد الملايين.

المشهد الذي بثته صورة ـ البوعزيزي ـ وقصته هي أن الاحتقان قد لا يحتاج إلى جرح ضخم للانفجار، بل قد يفجره دمَّل صغير، من بثور هامشية على أطراف الجسد في أي مكان. في أي مكان سقوط الديكتاتورية قد لا ينتظر تضحيات جمعية ضخمة بل قد تسقط بفعل متناهي الصغر. وفي أي مكان أيضاً. الديكتاتورية العليا في عنفوانها وجبروتها وفي أوج قوتها قد تسقط بخطأ ثانوي هامشي تقوم به أو يقوم به بالنيابة مسمار شارد في قلب آلتها الضخمة. هذه الديكتاتورية الضخمة، كما تبرهن بعض وقائع التاريخ تخطئ تماماً في أن حراس الثورة والجمهورية قد يحمون القلاع أو يسندون تحوام الظهر. رأس إبرة صغيرة قد يسقط هذه الأوهام. فأر صغير أنهى حضارة مأرب. تلك رسالة الفرد الضعيف وهو يتحول إلى أكبر قوة مدمرة.