قبل أيام قليلة مرت بسماء مدينة أبها الحبيبة طائرتان دون طيار بعثت بهما الميليشيات الحوثية، وبادرتهما بالإسقاط قوات دفاعنا الجوي العظيمة، ولله الحمد، وهما متجهتان نحو هدفهما في خميس مشيط.
ليست هذه أولى محاولات عملاء إيران في اليمن اختراق أرضنا وسمائنا، وفي المنظور القريب لن تكون - والعلم عند الله- آخر َالمحاولات، لكنها يوماً ما ستنتهي، وستُعلِن بانتهائها سقوط الأحلام الكسروية المجوسية في جزيرة العرب وسائر بلاد الإسلام.
أما كون نهايتها ليست في المنظور القريب فلأن هناك عوامل دولية وإقليمية ومحلية وجغرافية يعرفها أكثر المتابعين للأحداث تحول دون إنهاء هذه الأزمة بالسرعة المطلوبة.
أما الجزم بنهايتها -إن شاء الله- فذلك أيضا لعوامل أُخر غير خافية على أحد من تفوق المملكة العسكري، ولأن العوامل الدولية والإقليمية مصيرها إلى التغير، فلا يوجد موقف دولي ثابت من أي قضية، بل كل المواقف مرهونة بمصالحها، والمصالح متغيرة وليست ثابتة.
وفي هذا المقال أحب أن ألفت إلى أن تاريخ الدولة السعودية مليء بالتجارب في جميع الاتجاهات، ويمكن لواضعي الإستراتيجيات العسكرية أو الاقتصادية أو في العلاقات الدولية استنطاقها للاستفادة منها في تقريب الرؤية بعد مراعاة ما تنبغي مراعاته من فروق الزمان والمكان.
فمنذ نشأة الدولة السعودية في طورها الأول وهي في صراعاتها مع الآخرين، تمثل دائما الجهة المعتدى عليها وليست المعتدِية، ففي كل حروبها منذ ذلك الزمان وحتى اليوم وهي تمثل الجهة التي لا تُقَاتِل حتى تُبدأ بالقتال، ولا تسعى إلى استئصال الخصم حتى تيأس من الصلح معه، وفي كل أحوالها تلك كانت الدائرة تدور لها.
والذي ينبغي استكشافه والعمل على الاستفادة منه اليوم، هو المنهج الذي كانت تسلكه السعودية ويؤدي بشكل مطرد إلى الحسم لصالحها.
فمثلاً، السعودية منذ أن كانت حدودها لا تتجاوز ضواحي الدرعية بعد ميثاق الدرعية عام 1157 وهي تتعرض للعدوان والتحالفات القوية لإسقاطها، من جهات أقوى منها وبعيدة عنها كثيرا، لكنها فَرَضَت نفسها كخصوم دون أن يكون للسعودية أدنى علاقة بها.
ففي تلك الأثناء تحالف عريعر بن دجين صاحب الأحساء وابن هبة الله صاحب نجران، وقطع أحدهما صحراء الدهناء والآخر صحراء الربع الخالي من أجل أن يقضيا على إمارة صغيرة في وسط نجد لا يمتد سلطانها حتى إلى الرياض والخرج القريبتين منها، فأما الثاني فدُفِع بالمال، وأما الأول فتحقق النصر العسكري عليه، ثم اسْتَجَدَّ تحالف بين ابن دجين وبوادي العراق بقيادة ثويني السعدون ودعم والي العراق العثماني، ففرق الله جموعهم وهزم كتائبهم، ثم استجد حلف بين حاكم الأحساء وشريف مكة ووالي العراق، ففرق الله جمعهم ووقى شرهم وهزم كتائبهم.
والمثير للتدبر، أن هذه التحالفات وتصدي الدولة السعودية لها كان ينتج عنه انتشار للدعوة وزيادة في الأتباع واتساع في رقعة الدولة، حتى تمكنت من إسقاط جميع هؤلاء الخصوم وضم ديارهم لها، فأصبحت حدودها من الشمال: نهري الفرات والعاصي، ومن الشرق الخليج العربي، ومن الغرب البحر الأحمر، ومن الجنوب بحر العرب.
وحين نرجع إلى موازين القوة العسكرية نجدها مع الخصوم وليست مع الدولة السعودية، إلا أن القوة الروحية كانت مع السعودية وليس مع الخصوم منها شيء، فالمقاتلون الذين وقفوا مع الدولة السعودية كانوا على ضربين، الأول: تابعون للإمام من آل سعود، وهؤلاء كانوا يقاتلون من أجل دولة العقيدة والتوحيد وإحياء السُّنة، الآخر: ضرب ليسوا من رعايا دولة الإمام، لكنهم سرعان ما يقومون من أجلها ويتبنون مبادئها حينما تتعرض لخطر محدق، فتجد بعض القرى تقاتل أعداء الدولة مع أنها ليست تحت ولايتها، وأن مصلحتهم المادية مع خصومها، إلا أن التعاطف الروحي مع دعوة الدولة ومبادئها يجعلها تنضوي إليها وهي في أحلك ظروفها.
فقد كانت إستراتيجية السعودية الأولى في طور نشأتها وفي أزهى سنوات انتشارها ترتكز على الجانب العقدي الذي تحمله، وليس الجانب المالي أو جانب العدة والعتاد، فكان هذا المرتكز سبب سقوط أولئك الخصوم الكبار تحت مبادئ دعوتها قبل أن يسقطوا تحت سنابك خيلها.
وقد كانت هذه الإستراتيجية حاضرة لدى الإمام تركي بن عبدالله في تأسيسه للدولة في طورها الثاني، وحاضرة لدى فيصل بن تركي حين استعاد الإمامة بعد رجوعه من الأسر العثماني، وكذلك كانت حاضرة لدى الإمام عبدالعزيز حين تأسيس هذا الكيان الذي نتفيؤه.
نعم، الحرب العسكرية في تلك الأزمان غيرُها في هذه الأزمان، هذا يقين لا شك فيه، لكن اليقين الآخر أن رصيد السعودية من المبادئ العظيمة التي تأسست عليها في كل أطوارها لا ينبغي أن تُغَيِّبه القدرات المادية والعسكرية العظيمة التي تمتلكها بلادنا، إن خصومنا كلهم دون استثناء، عربهم وعجمهم، شرقهم وغربهم، يستخدمون ضدنا السلاح الفكري، والمفاهيم المغلوطة للدين، والمفاهيم المغلوطة للدنيا، فالفكر الصفوي والغلو الصوفي والفكر الصهيوني والفكر التكفيري وفكر العولمة، هي أسلحة أعدائنا التي نواجهها في الإعلام والمحافل الثقافية، وهي أسلحة تشبه البارود الذي لا ينفجر إلا في الجفاف، ويذوب ويتلاشى حين يصيبه المطر.
إن بلادنا تملك الفكر المطير الذي تتلاشى معه كل تلك الأفكار والأيديولوجيات المِلْحية، وبوسعه لو استثمرناه واضطلعنا به أن يبني دساكرنا وسُرادقاتنا في أفنية خصومنا، ويُعَجِّل بالدائرة لنا، كما فعل وفعلنا في أطوار دولتنا السابقة.
إن الاقتصار على المال والسلاح في معركتنا مع إيران وأذرعتها، وأهمهم اليوم الميليشيات الحوثية، سيُنهي القتال يوماً ما، قَرُب أم بعد، لكنه لن يحسم المعركة التي ينقصها اليوم من قِبَلِنا تلك الدعوة النقية العاقلة المبنية على التوحيد والاستعباد لله، والتي لم نتخل عنها، دولة وشعبا، لكن استخدامنا لها كدعوة يملي علينا ديننا واجب نشرها، وتملي علينا الحاجة واجب التسلح بها في مواجهة أعدائنا، كل ذلك ضَعُف ولم يعد ولم نعد معه كما كان عهدنا في السابق.
حين تطلق إيران أكثر من أربعمئة محطة تلفزيونية لنشر فكرها الخرافي الذي تحاربنا به في العراق ولبنان واليمن، ثم لا نملك من المنابر التي تُصدر مبادئنا أو ترد على ذلك العدد الضخم من المنصات الإعلامية سوى العدد القليل، بل إننا في اليمن الذي لم يعد شعبه في الصحارى والجبال يستمع سوى للمذياع، لا نملك هناك إذاعة واحدة، مع أن تلك المناطق هي ميدان حربنا، حين يكون الوضع كذلك فإننا والحال كذلك ولو ملأنا الأجراء بالطائرات والأرض بالمصفحات، قد تركنا العقول والقلوب التي هي محركات الأجساد يستبد بها غيرنا.
أُفاجأ أحيانا بكثير من الطرح الإعلامي لدينا، والذي يُشعرني بأن خصومنا لم يستطيعوا أن يُشَوهوا دعوتنا أمام العالم فقط، بل شوهوها لدى نُخبنا المتصدرة للتوجيه الإعلامي حتى إِخَال أن قناعتهم بصدق ما يقوله خصوم دعوتنا عنها باتت أكبر من قناعة خصومنا بذلك.
إن سلاحنا الفكري في حربنا ليس غير دعوتنا التي قامت عليها بلادنا، دعوة التوحيد وما يقتضيه التوحيد من قول وعمل، وهي دعوة جاذبة فإن استطاع أعداؤنا جعلنا نخجل من ذكرها أو تبنيها كإستراتيجية إعلامية في معركتنا، فمعنى ذلك أن أحد أجنحتنا ما زال مهيضا.