هذا عنوان فيلم للأمانة، ولكنه تنبيه لعالم عربي بأسره حقيقة. السودان اليوم على وشك الانفصال، وهو منفصل لا محالة، وأهل الجنوب هناك "يزغردون" فرحاً بذلك، وأنا حقيقة فرح لهم، لا كرهاً في السودان، ولا حباً في الحركات الانفصالية، فوحدة البلاد والعباد من أجمل الأشياء في نظري إن كانت تحقق سعادة الإنسان، ولكن الظلم ظلمات، وغياب العدل والمساواة يؤدي في النهاية إلى ما هو أكثر من العنف وتفتت الدول التي تفرق بين مواطنيها فتجعلهم فئات بعضها فوق بعض. بعد سنوات من القتال والعنف وإزهاق الأرواح بين الشمال والجنوب جاءت لحظة الحقيقة، وأقر الشمال بحق أهل الجنوب بالانفصال إن أرادوا، وهو يردد:"مكره أخاك لا بطل"، مع أنه كان بالإمكان أفضل مما كان، ولكن"لا فات الفوت..ما ينفع الصوت". وبلغ ترحيب أهل الجنوب بالانفصال أنه حتى من يصرح بترحيبه بالوحدة يُعتبر من الخائنين.
والأقباط في مصر في حالة استنفار بعد حادثة الإسكندرية، وهي الحادثة التي تمثل القشة التي قصمت ظهر البعير في مجتمع كان "الدين فيه لله، والوطن للجميع"، حين كان التسامح والمواطنة الواحدة هي أرقى القيم. وفي تونس الخضراء، وجزائر المليون شهيد، ودول أخرى هناك حراك شعبي عنوانه التمرد على الغلاء وعدم المساواة والفساد، ولكن عمقه يكمن في رفض الأنظمة التي تتعامل مع الدولة على أنها مشروع خاص بها. المشترك في كل هذه الأمور، سواء المطالبة بالاستقلال، أو الثورة ضد الغلاء والفساد وعدم المساواة، هو تحول الدولة إلى دولة بعض البعض على حساب مجمل الكل، وهنا تكمن القضية، بل وأصل كل قضية.
مما لا شك فيه أن للظواهر الاجتماعية أسبابا عديدة يصعب حصرها، ولذلك فإن الدارس لهذه الظواهر لا يستطيع الجزم في نتائجه مثل جزم الدارس للظواهر الطبيعية، وذلك لكثرة المتغيرات وصعوبة تحديد آثار تداخلها في وقت واحد. من هذه الظواهر ظاهرة عدم الاستقرار السياسي وأسبابها، حيث تختلف أسبابها من مكان لآخر، ومن زمان لآخر، ومن ثقافة معينة إلى ثقافة أخرى. ولكن، وإن كان النتيجة السابقة صحيحة، إلا أن هنالك تعميمات معينة يمكن استخلاصها من تاريخ البشرية، يمكن أن تنطبق على اختلاف درجاتها على معظم أحداث هذه المعمورة، ومن ذلك ظاهرة عدم الاستقرار السياسي، أو لنقل الاضطرابات السياسية على اختلاف درجاتها، بدءاً من التمرد العارض، وحتى الثورات التي تأكل الأخضر واليابس. فقد يكون سبب الاضطراب اقتصادياً، أو ثقافياً متعلقاً بمفاهيم معينة، وقد يكون سبباً اجتماعياً متعلقاً ببنية المجتمع ذاته، وقد يكون كل ذلك أو لا يكون أي من ذلك، فالظاهرة الاجتماعية عموماً عصية على الفهم التام، ولا نستطيع في كثير من الأحوال إلا أن ندرس كل ظاهرة على حدة، من أجل الوصول إلى شيء من الفهم الشامل لما حدث وكيف حدث ولماذا حدث. ولكن الأهم من الأسباب العميقة للاضطراب السياسي هي تلك الأمور أو المتغيرات أو العوامل أو المستجدات التي تُسرع العملية، أو تسرع في انفجارها، وتحدد حجمها، أهو احتجاج عابر أو هو ثورة شاملة. فالأسباب العميقة للاضطراب قد تكون موجودة في كل المجتمعات التاريخية والمعاصرة، فليس هناك مجتمعات كاملة ولكن هي تلك المسرعات تلك التي تحفر أعماق البركان القابل للانفجار، وتجعل من الأسباب الكامنة أسباباً فاعلة على السطح.
كتب كثيرة ناقشت لماذا يثور الناس لا مجال لاستعراضها في هذه العجالة، ولكن أكثر هذه الكتب تتفق على أن هنالك عدة مسرعات تؤدي في الغالب، إذ ليس هناك حتم في العلوم الاجتماعية، إلى عدم الاستقرار السياسي، تُضاف إلى أسباب أكثر عمقاً لعدم الاستقرار، ومن أهمها: الأوضاع الأقتصادية والعنف الحكومي والوعي العام بعدم العدل والمساواة والمحاكاة، بالإضافة إلى عوامل أخرى مهمة في تحقق، أو عدم تحقق، الاستقرار السياسي، ولكن المذكور آنفاً هو في ظني الأهم. وكلما ترافق أكثر من واحد من هذه المسرعات، كان الأثر أكبر، والعكس ليس بالضرورة صحيحاً. فالأزمات الاقتصادية لها أكبر الأثر في تمرد الشارع ووضع حجر الأساس للحركات المعارضة، سواء تلك التي تريد التغيير من خلال النظام بالإصلاح، أو بالقضاء على النظام بثورة أو انقلاب. فالثورة الفرنسية كانت مسبوقة مباشرة بموسم حصاد سيء، وبطالة متفاقمة، وأسعار عالية، وخاصة أسعار الخبز الذي هو للفرنسيين بمثابة الأرز لللآسيويين، وأجور منخفضة لعامة الشعب، في ذات الوقت الذي كان هنالك إنفاق في غاية البذخ في القطاعات العسكرية والبلاط الملكي للويس السادس عشر، ومن كان له الحظ في أن يكون من الحاشية والمقربين، مما شكل استفزازاً للعامة التي كانت تصرخ مطالبة بمجرد الخبز. والنازية الألمانية، وكذلك بالنسبة لبقية الأحزاب الشمولية المتطرفة في إيطاليا واليابان، وحتى في الولايات المتحدة الأميركية، شهدت ازدهارها الأعظم في سنوات الكساد الكبير (1929 – 1932)، حين ارتفعت البطالة في ألمانيا من مليونين إلى ستة ملايين خلال سنوات ثلاث فقط، مما مهد الطريق لانتصار أدولف هتلر وحزبه في انتخابات عام 1933. صحيح أن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى كانت ذات أثر في ازدهار النازية والفكر القومي المتطرف، ولكن لولا هذه الظروف الاقتصادية السيئة، لما كان لهذا الفكر أن يجد ذاك القبول الذي أوصل النازيين إلى الحكم، الذي قال إن "الاشتراكية الوطنية (النازية) هي الحل"، وعن طريق صندوق الانتخاب وليس عن طريق الانقلاب. وانتفاضة الخبز في القاهرة عام 1977، كانت نتيجة مباشرة لرفع الدعم عن الخبز وارتفاع أسعاره. فالإنسان في الغالب الأعم يتجه نحو الفعل نتيجة للظروف الاقتصادية أكثر منه نتيجة للدعوات الأيديولوجية المبشرة بالعدالة والمساواة. ولكن ما أن يبدأ الاحتجاج على نقص الغذاء والبطالة أو الأسعار المرتفعة، فإنه يصبح أكثر قبولاً للتيارات والأيديولوجيات المتطرفة وتنظيماتها، تلك التي تعده بجنة الرب حالاً وبالاً على أرض البشر.
وبالنسبة للعنف، فإنه يمكن القول إن العنف ليس قاصراً على الحركات المعارضة المسلحة، بل إن الأعنف في كل مجال هو الدولة ذاتها، إذا ما سخرت أدواتها لممارسة العنف. ولكن الفرق هو أن عنف الدولة عنف شرعي، أي أن المواطن في دولة ما يرى حق هذه الدولة في ممارسته، على عكس ممارسيه من خارج مظلة الدولة. ولكن أن تملك الدولة "الحق" في استخدام العنف، لا يعني أن المسألة مطلقة. فالدولة تستخدم العنف، أو يفترض أن تستخدم العنف، لضبط المجتمع وتنظيمه، ولكن عندما يتجاوز هذا العنف درجة معينة، تختلف حسب الظروف والأحوال، يصبح عنفاً غير شرعي، وتتساوى الدولة في ذلك مع بقية الممارسين، ويصبح الأقوى في ممارسة العنف هو المالك للشرعية السياسية في النهاية. وفي ذات الوقت، عندما يقل عنف الدولة عن درجة معينة، فإن الدولة تفقد شرعيتها في عين المواطن، إذ تبدو والحالة هذه وكأنها غير قادرة ولا مؤهلة لضبط المجتمع وتنظيمه. ولكن يجب أن تؤخذ في الاعتبار الدرجة التي تحدد المقدار المناسب من عنف الدولة عند متخذ أو صانع القرار السياسي، من حيث محاولة تحديدها بأكبر قدر من الدقة، ووفق تغير الظروف والأحوال، لأن ذات شرعية الدولة تعتمد في النهاية على مثل هذا التحديد: فالعنف الناقص مثله مثل العنف الزائد، كلاهما يؤديان إلى الاضطراب وعدم الاستقرار..هذا ويستمر الحديث بإذن واحد أحد.