يبدو أن قدرنا الحزين نحن العرب أن ننشغل دائماً بما تركه الآخرون وراء ظهورهم متخففين من سقط المتاع حتى لا يُعيق تقدمهم وتطورهم، لأنه لم يعد بالنسبة لهم إلا صفحات من الماضي، ولا يُشكل أي قيمة تُضاف إلى سجلهم المرصع بعلامات الإبداع والتميز. أما نحن وكالعادة ننشغل بكتابة التراث القديم، واجترار النصوص البالية، واستحضار الأفكار المحنطة التي يسكنها الغبار، ونُعيد بين الفينة والأخرى اختراع العجلة، رغم أن مفردة "اختراع" لم تستقر بعد في الذهنية العربية المستهلكة بكسر اللام وكل ما نستند إليه في الأغلب هو تلك الصفحات المشرقة من ذلك الزمن الجميل، يوم كان العالم العربي منارة للعلم والمعرفة تُضيء العالم، كل العالم.
السبب في كتابة هذه المقدمة الميلودرامية هو حالة الحزن والألم التي اجتاحتني أثناء وبعد إعدادي لورقة علمية حول أزمة القراءة في العالم العربي نزولاً عند رغبة القائمين على "ملتقى القراءة للجميع" والذي أقيم قبل بالكلية التقنية بمحافظة القطيف. "أزمة القراءة في العالم العربي..تحديات وحلول"، بهذا العنوان الكبير والطموح، حاولت أن أقترب قليلاً من هذا الملف الساخن والمفتوح منذ عقود طويلة في عالمنا العربي، ملف حاضر وبقوة في مؤتمراتنا وملتقياتنا وندواتنا وسجالاتنا التي لا تنتهي، لأنها أي تلك المؤتمرات والندوات أسست لثقافة حصرية بنا نحن العرب، وهي ثقافة المؤتمرات التي نُكرسها بكثافة ونعشقها بشبق، بعيداً عن كل ما تقدمه هذه "التجمعات البشرية" من خدمات وخبرات وحلول للكثير من الموضوعات التي تتبناها، فقط يكفي أن يُعقد من أجلها مؤتمر هنا أو ندوة هناك، كما يكفي أن تُعقد على تلك المؤتمرات الشكلية بعض الآمال والطموحات. هذا يكفي!
أزمة القراءة في العالم العربي، أزمة تُضاف إلى منظومة الصعوبات والمعوقات والأزمات التي يُعاني منها الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، مما أدى إلى هذا التراجع الخطير للدور العربي على كافة الصعد والمستويات، وذلك باعتبار أن القراءة بمفهومها الشامل والحديث ليست مجرد الجهر والنطق بالكلمات المكتوبة، أو حتى اشتمالها على بعض النشاطات العقلية كالمعرفة والفهم، ولكنها عملية فكرية عقلية تستند على العديد من المهارات كالنقد والتحليل مما يؤدي إلى تفاعل منهجي بين القارئ وبين ما يقرأ. القراءة هي أهم وسيلة لكسب العلوم والمعارف والأفكار والخبرات، وهي لغة التواصل بين الحضارات والشعوب، وهي العامل الأهم في تكوين الشخصية الإنسانية بأبعادها المختلفة.
المواطن العربي لا يقرأ. لماذا؟. سؤال بسيط جداً، ولكن ماذا عن الإجابة؟ هل هي كذلك؟. تنتشر الأمية في الوطن العربي بشكل مريع جداً يصل إلى أكثر من 40%. الأوضاع الاقتصادية تزداد سوءا، ودخل المواطن العربي متواضع جداً، والفواتير والطعام والتعليم والسكن والأقساط تتصدر اهتماماته، ولا مكان للكتاب بين كل تلك الضروريات التي يفتقدها ذلك المواطن العربي المسكين. أيضاً، العامل السياسي الذي يشعر بخطورة الكتاب كسلعة تُخاطب العقل. كذلك التراجع الخطير في حركة النشر والطبع والتوزيع في العالم العربي، وعدم التحول إلى مفهوم "صناعة الكتاب" كما هو الحال في العالم الغربي. كذلك التطور التقني الهائل لوسائل الإعلام وسيطرة الوسائط الرقمية مما أضاف تحديا آخر على القراءة التقليدية. غياب مؤسسات التنشئة الاجتماعية كالمنزل والمدرسة والمجتمع عن ممارسة دورها الفاعل في توطيد علاقة الفرد العربي بالكتاب، خاصة الطفل. وعدم الإيمان أصلا بالقيمة المعرفية باعتبارها أساساً مهماً للتحضر والتطور. أيضاً قلة المكتبات العامة، خاصة في الأرياف والقرى. الأسباب كثيرة جداً، ولا يمكن حصرها، ولكن هل هي إجابات شافية لذلك السؤال البسيط؟!
وحتى أزيد الطين بلة، كما يقولون. هذه بعض الأرقام العربية المخيفة جداً كمؤشر حقيقي للواقع العربي المتردي نتيجة غياب ثقافة القراءة. متوسط القراءة للفرد العربي لا تزيد عن 6 دقائق فقط في السنة، الفرد العربي يقرأ ربع صفحة فقط في السنة، كل مليون عربي يقرؤون 30 كتاباً فقط في السنة، ينشر العالم العربي أقل من 2000 كتاب في السنة، كتب الطبخ تحتل الصدارة بنسبة 23% على الإنترنت، تم تحميل 150 كتاباً في عام 2009، مقابل 43 مليون فيلم وأغنية في نفس العام، المطرب المصري تامر حسني يتفوق بضعفين على المتنبي ونزار قباني ونجيب محفوظ ومحمود درويش مجتمعين، يحتل البحث عن كتاب في قوقل المرتبة الـ 153 من بين اهتماماتنا العربية، أهم 3 مواضيع يبحث عنها العربي في قوقل هي على الترتيب: الجنس ثم الطبخ ثم الفضائح، عدد الكتب الأجنبية المترجمة خلال ثلاثة عقود (1970ــ 2000م) 6881 كتاباً فقط.
أزمة القراءة في عالمنا العربي خطيرة جداً، وتستدعي سرعة التدخل من كل الأطراف، سواء الرسمية أو النخبوية أو الشعبية. ولكن، ومع كل هذا الوضع المأساوي الذي يشهده واقعنا العربي، تبرز بعض المبادرات والتجارب للحد من هذه الظاهرة الخطيرة، لأن الأمر ليس مجرد قراءة كما يظن البعض، بل هو أعمق من ذلك بكثير، فالقراءة هي المهارة الأساسية التي تعتمد عليها التربية المنهجية، حيث تُشير بعض الدراسات والأبحاث إلى أن الطفل الذي لا يتعلم أسس القراءة مبكراً، فإنه على الأرجح لن يتعلمها كما ينبغي أبداً. وطفل لا يتعلم القراءة جيداً في مرحلة مبكرة، لن يُفلح في اكتساب العلم والمعرفة أو أي مهارات أخرى.
ومن هذه التجارب العملية "مجموعة القراءة"، و"كتاب كل أسبوعين" للداعية عمرو خالد، ومسرحة القراءة، ونادي كتاب الطفل، وتجاربهم مع القراءة، ومشروع "كتاب في جريدة". هذه التجارب الرائعة التي أسهمت في إشاعة ثقافة القراءة في العالم العربي بحاجة إلى أن يُسلط عليها الضوء لأنها تستحق ذلك. أتمنى أن أفعل ذلك قريباً.