تطرح بعض المفاهيم الفكرية أو الثقافية بشكل أعم كحاجة إلى إعادة صياغة الواقع برؤية أكثر تعميقاً بحيث يمكن تحول المجتمعات من سياق إلى سياق آخر. هذا التحول أحيانا يكون سبباً في وجود مثل تلك المفاهيم باعتبارها نوعاً من الفعل الثقافي الذي يطمح إلى تجديد الرؤى في الواقع المعاش وتحسينه. هكذا تأتي المفاهيم كتفاعل بين الفكر والواقع أو كتفاعل مع متغيرات كثيرة فرضت ذاتها على المجتمع، إما عن طريق رؤى مثالية كجدلية فكرية بين متناقضات، كما يطرحها هيجل، أو عن طريق الرؤى المادية وصراع القوى والطبقات كما يطرحها الفكر الماركسي. لذلك تأتي بعض المفاهيم كنوع من الإجابات الفكرية لسؤال الواقع، وصياغة المفاهيم تعتبر في نظر جيل دولوز أحد أهم اشتغالات الفلسفة المعاصرة؛ بل هي اشتغالها الحديث.

ومع تبلور المفاهيم، فإن الواقع الثقافي يحاول دائما إعادة صياغة هذه المفاهيم، وتبيئتها ثقافياً مع الواقع الفعلي الذي يتناسب مع المعطيات التاريخية لمجتمع ما، دون مجتمع فيصبح لكل مجتمع مفاهيمه الخاصة التي لا بد أن تتغير مع الوقت لتغير الواقع ذاته وتغير المعطيات. هذا الشيء يقود إلى تغير الخطابات من شكل إلى شكل، ومن مكان إلى مكان، ومن زمن إلى زمن لاحق، والظروف التاريخية تعمل عملها في إعادة البلورة من جديد، إذ لا يمكن لنا نقل مفهوم دون الشوائب والعوالق الثقافية والاجتماعية التي تلازمه سواء كان مفهوماً فلسفياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو غيره، ذلك بسبب أن العوامل التي صيغت في مجتمع من المجتمعات تختلف بالضرورة عن مجتمع آخر.. هنا يكون من الطبيعي إنتاج مفاهيم وصيغ عديدة للمفهوم الواحد حسب الرؤى التي تتبناه وتحاول بلورته أو تبيئته مجتمعات دون مجتمعات أخرى. نحن أمام عمل تأويلي للمفهوم ومحاولة إعادة إنتاج داخلي لمنتج فكري سابق، وهنا تَتَعَدّد الصيغ لتعدد المجتمعات، وتعدد المفاهيم.

هذا الوضع لا ينطبق فقط على صياغة مفهوم فكري معين، وإنما يشمل كافة المفاهيم الفكرية الكبرى، فمفهوم مثل مفهوم الحداثة يضطرنا إلى البحث عن أي حداثة نتحدث؟، كما أن مفهوم ما بعد الحداثة يضطرنا إلى البحث في ما بعد حداثات الفلاسفة المعاصرين، وليست ما بعد حداثة واحدة، كما أن مفهوم التنوير أيضا يطرح مثل تلك الإشكالية في بلورة المفهوم من مكان إلى مكان، فالفلسفة التنويرية في فرنسا ليست هي بالتحديد فلسفة التنوير في بريطانيا مثلاً، فإذا كانت الأولى قادت إلى ثورة عامة معروفة ومشهورة فإنها في بريطانيا كانت أقرب إلى التصالح مع النظام القائم آنذاك، ولم تخلق توتراً عارماً كما حصل في فرنسا، وذلك بسبب أن الواقع البريطاني يختلف عنه في الواقع الفرنسي رغم المشتركات الكبرى في فهم التنوير لدى هؤلاء وهؤلاء.

لا يقف الوضع عند هذا المستوى، بل يمكن القول إن المفاهيم الكبرى يمكن لها أن تؤسس لخطابها المضاد من داخلها كما فعلت فلسفة الحداثة إذ أنتجت بفعل رؤيتها النقدية الخطاب المقوض لها وهو خطاب ما بعد الحداثة أو ما بعد التنوير، كما يمكن القول بنقض ما بعد الحداثة من داخل ما بعد الحداثة نفسها. وفكر النهضة العربية أنتج المتناقضات الفكرية فتولد الخطاب السلفي من داخل رحم خطاب النهضة، كما تخلقت الرؤى التقدمية العربية من رحم الرؤى النهضوية قبل قرن تقريباً. الاشتراكية مثلاً كانت أكثر من اشتراكية بحسب الفهم لها، وحسب الصيغ المختلفة التي يمكن أن تُؤَوّل من داخلها، ومما ينقل عن ماركس أنه كان يقول: "أنا لست ماركسيا"، حينما رأى أن فلسفته المادية أنتجت صيغا تختلف عن الصيغة التي كان يريد نشرها لكن هذه هي طبيعة الأفكار والمفاهيم، إذ هي دائماً في حالة تدوير وإنتاج وتفاعل اجتماعي، ربما يبعد بها عن مفهومها الأول. تماماً كما هي الأديان بعامتها إذ أنتجت المجتمعات مذاهب دينية حاولت جميعها الاتصال بنفس الدين الأساس تقترب أحياناً، وتبتعد أحياناً أخرى حسب نوعية التأويل أو التفسير لكنها لا يمكن أن تتطابق مع الدين الأول. وإذا أردنا أن نضرب مثالا في الدين الإسلامي فقد أنتج المجتمع الإسلامي اللاحق لمجتمع الرسالة "إسلامات" متعددة إذا صح التعبير، كما أن المجتمعات الإسلامية الحالية تكاد تختلف في بنيتها الفكرية، ولها صيغها الإسلامية التي تتناسب مع بنيتها الاجتماعية وواقعها المعاش، وحينما نريد أن نتحدث عن الإسلام حالياً فإن سؤال: (عن أي إسلام نتحدث؟) سوف يفرض علينا تقديم قراءات مختلفة لدين واحد بعضها يحاول أن يكون إسلاماً تقدمياً إلى الدرجة التي تتصالح مع العلمانية ذاتها كالإسلام التركي مثلا، وفي المقابل فقد فُرض إسلام آخر أرهب فيه أصحابه الآخرين كما هو إسلام الحركات الإسلامية المتطرفة.

ويأتي مفهوم الليبرالية ـ بحكم أنه مثالنا المفاهيمي هنا ـ ضمن هذه الرؤية أي أنه ينطبق عليه ما ينطبق على كافة المفاهيم التي سبقته، فمفهوم الليبرالية عام، وربما تحول إلى مفهوم شمولي، ما يعني قابليته للتشكل وفق تشكل المجتمعات وتكوينها، وهو ما يمكن له أن يكون اتجاها يطمح إلى تعدد الرؤى الفكري في المجتمعات وحرية الأفراد وفردانيتهم، ولذلك فليس من الغريب أن تكون هناك ليبرالية فرنسية أو أميركية أو بريطانية أو عربية أو ربما تحديداً سعودية، وربما يتشكل في داخلها أكثر من تيار كمن يحاول الجمع ما بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه الليبرالي في صيغة تريد التقريب بين الأقطاب المتنافرة كالاتجاه الليبروإسلامي مثلاً وهو اتجاه له رموزه الذين صاغوا ليبرالية إسلامية خاصة.

على هذا الأساس فمن ينتقد الليبرالية على اعتبار أنها لا وضوح في مفهومها حتى لدى مدعيها فإنه ينسى طبيعة المفاهيم الكبرى ومدى اتساقها مع المجتمعات بمدى تحولها في داخل كل مجتمع حسب التحولات التي تأتي على المجتمعات. إذن هي مفهوم مرن أكثر من أنها مغلقة على ذاتها، وهذا أحد أهم التكوينات الفكرية في داخل مفهوم الليبرالية كونه يؤسس إلى خطاب التعدد، وليس خطاب الواحدية المفروضة من قِبَل خطابات أخرى.