لا تزال ثقافة "الجهاد" بمفهومه التقليدي سائدة في مجتمعنا، وتتضح نتائجها المُرَّة من أعداد "الشباب" المتكاثرة المنتمين إلى "الفكر الجهادي" الذين تقبض عليهم قوى الأمن أو تعلن أسماءهم بين حين وآخر.
ومن دلائل تجذر هذه الثقافة ما ورد في سياق تصريحات الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، التي يستنكر فيها تفجير الكنيسة في الإسكندرية "الشرق الأوسط" (7/1/2011م). لكن تضمن الخبر سؤال أحد الحاضرين للشيخ الفوزان نصه: "فضيلة الشيخ: لماذا هذا العداء على الجهاد وتحريض الناس على عدم الذهاب إليه مع أن الأمة الإسلامية محتاجة لهذا الجهاد والأعداء لا يريدون الجهاد ونحن نوافقهم؟"
ويشي السؤال بسطوة المصطلحات الشائعة في الخطاب الحركي. ومن أهمها مصطلح "الأمة الإسلامية" التي يرى ذلك الخطاب أنها حقيقة واقعة لا تحدُّها الحدود الدولية بين الدول، ومنها الدول الإسلامية السبع والخمسون التي لا يربط بينها إلا العلاقات الرسمية المألوفة دوليا.
وكذلك مصطلح "الأعداء". ولم يبين السائل من هم الأعداء: أيعني الدول الكبرى، أم الدول الإسلامية، ومنها المملكة، التي تحارب ثقافة العنف المتلبس بمفهوم الجهاد؟ أم يعني الكتّاب والمثقفين السعوديين الذين يسعون إلى تجنيب وطنهم هذه الفتن المتتابعة المتذرعة بهذا المفهوم؟
وليس من البين ما يشير إليه السائل بضمير الجمع في قوله "ونحن نوافقهم". فهل يعني المسلمين جميعا، مما يعني تنصيب نفسه متحدثا باسم أناس لم يخولوه التحدث باسمهم؟ أم كان يعني "علماءنا"، ومنهم الشيخ الفوزان الذي كان يحاول تبيين أن ما يرتكبه "الشباب" من أعمال العنف لا يمكن تسويغه بمفهوم الجهاد.
ومهما كان الأمر فالسؤال يشير إلى تجذر "ثقافة الجهاد" في ثقافتنا بشكل لا لبس فيه، كما يشير إلى عدم نجاح الجهود التي بذلت طوال السنين الماضية لمكافحة هذه الثقافة للتخفيف منها أو من نتائجها المتمثلة في انخراط مزيد من "الشباب" في أعمال العنف التي تزوَّر باسم "الجهاد".
ويتبين سبب الفشل في ترشيد هذه الثقافة من الخطاب الديني نفسه الذي يحاول معالجتها. ويتضح ذلك من جواب الشيخ الفوزان عن السؤال السابق. فقد قال: "نحن نقر بالجهاد ونرغب فيه ولكن هذا ليس بجهاد هذا تخريب قتل للنفوس بغير حق.. الجهاد له أحكام وله ضوابط وشروط يتولاه ولي أمر المسلمين ويدعو إليه، ... فالجهاد من الأحكام السلطانية هو الذي يأمر به ويتولاه وهو الذي يجند الجنود ويعد الأسلحة".
ولا يتضمن قول الشيخ الفاضل جديدا؛ فقد أخذت المنابر الدينية المختلفة وحلقات المناصحة كلها على عاتقها تبيين المفهوم الفقهي التقليدي للجهاد، كما "حدده السلف"، للناس عامة وللمناصَحين خاصة، لسنوات طوال لكنها لم تنجح في كبح جماح مستغلي هذا المفهوم. فلا يزال انخراط أفواج "الشباب" فيما يسمى لهم بـ"الجهاد" كثيفا ومستمرا.
ويلفت النظر في جواب الشيخ الفوزان بدايتُه بالإقرار بالجهاد والرغبة فيه. وذلك ما يمكن أن يكون مسوِّغا لمن يرتكب أعمال العنف ويسميها باسم الجهاد. إذ يعني إقرار المبدأ أن الاختلاف في تأويل المصطلح سيفتح الباب واسعا لتسويغ أعمال العنف التي تسمى باسمه.
وكان المنتظر أن يبدأ الشيخ الفاضل بتعريف "الجهاد" قبل أن يعبر عن رغبته فيه وإقراره له حتى يبين للسائل أن المشكل يكمن في تحديد المفهوم لا في الإقرار به أو الرغبة فيه. ومع ذلك فإن تعريف الشيخ الفوزان للمفهوم لا يمنع من يريد تأويلا ملائما لأعمال العنف من تسميتها باسم الجهاد. ذلك أن المصطلحات التي أوردها تقليدية، ولم تعد ملائمة للعصر الحديث. ومن هنا يمكن لمن يريد تسويغ أفعال العنف أن يؤولها بتأويلات مختلفة عن التأويلات التي يراها الشيخ الفاضل.
ومن ذلك مصطلح "ولي الأمر". وهو مصطلح مشكل؛ ذلك أن مروجي العنف لا يعترفون بولي الأمر الذي يرتضيه الشيخ الفوزان. إذ لو كانوا يقرون لولي الأمر هذا بالطاعة لما خرجوا عليه ولما خالفوا أوامره. لذلك يفتح اللجوء إلى هذا المصطلح الباب لتأويلات يأتي بها مروجو العنف تحكم بأن ولي أمرهم شخص آخر، ثم ينطلقون في تأويلاتهم من مفاهيم تقليدية لا تختلف عن المفاهيم التي ينطلق منها الشيخ الفوزان.
كما أن مصطلح "ولي أمر المسلمين" لم يعد له حقيقة. فهو يعني أن المسلمين كتلة واحدة بخلاف ما عليه الأمر الآن بوجود ملك أو أمير أو رئيس لكل واحدة من الدول الإسلامية. بل إن هذا المصطلح يمهد للوقوع في أيدي مروجي العنف باسم الجهاد لأنه ينظر إلى المسلمين على أنهم كيان واحد ويكلِّف "الشاب" السعودي بأن يكون مسؤولا عن هذا الكيان.
ويوحي مصطلح "الأحكام السلطانية" بأن نظرة الشيخ الفاضل للجهاد مستمدة من اجتهادات الفقهاء في القرن الرابع الهجري الذي يختلف من حيث الكيانات السياسية عن العصور الحديثة.
وأمام هذا الفشل الواضح في معالجة العنف الذي يتذرع بمفهوم "الجهاد" كما تحدده المصادر الفقهية القديمة لابد من انتهاج طرق أخرى في معالجته ربما تكون أنجع.
ومن هذه الطرق، كما كتبت في مقالات سابقة، أن يعلن علماؤنا الأفاضل بأن المسلمين لم يعودوا كيانا واحدا، وأن هناك اتفاقيات دولية تمنع اجتياز حدود أية دولة إلا بالوسائل القانونية المتعارف عليها، وأن من القواعد المرعية عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وأن "الجهاد" يمكن أن يعرَّف الآن بأنه الدفاع عن حدود الدولة المعينة إن اعتدي عليها، وهي وظيفة تقوم بها الجيوش النظامية للدولة المعينة.
وهناك طريق آخر يمكن أن يلبي رغبات "الشباب" السعوديين المتحمسين لنفع المسلمين الآخرين، ويمنع في الوقت نفسه انخراطهم في شبكات العنف. ويتمثل هذا البديل في تأسيس مشروع يشبه المشروع الذي أسسه الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي في الستينيات الميلادية بمسمى "كتائب السلام" Peace Corps.
ويتمثل هذا المشروع في تأسيس مراكز تمولها الدولة لتدريب الشباب السعودي على مهارات تساعدهم للتطوع في البلدان الإسلامية لبناء الطرق والمدارس والمساكن والمستشفيات وحفر الآبار وتعليم الناس، وغيرها من مشاريع النفع العام التي تفيد المسلمين في تلك الدول.
ولا يمكن الاستهانة بمدى النفع الذي سيعود على السعوديين أنفسهم وعلى المسلمين من هذا المشروع الذي سينشر السلام ويساعد المسلمين على مغالبة الفقر والأمية والأمراض. ويمكن الإشارة هنا إلى تجربة الدكتور عبد الرحمن السميط الذي حقق بجهوده الفردية في سنوات معدودة لكثير من المسلمين خيرا كثيرا يفوق بأضعاف ما حققته لهم "القاعدة"، والمتطرفون، طوال السنين، إن حقق أولئك خيرا ألبتة.
ويلزم هذا المشروع أن يؤمن به علماؤنا الأفاضل ويتبنونه بديلا للتأويلات التقليدية للجهاد التي لم يجلب استغلالها إلا القتل والتشريد والسجون لكثير من شبابنا، والتخريب لمقدراتنا ومقدرات الآخرين، وتعميم الخوف منا، والسمعة السيئة لوطننا وثقافتنا.