فجأةً وبشكل غير مسبوق أصبحت وزارة التعليم العالي من أكثر وزاراتنا تعاملا مع الجمهور مباشرة سواء مع المواطنين أو مع أسرهم، بعد أن ظلت هذه الوزارة لفترات طويلة تقتصر تعاملاتها ـ في الغالب ـ مع المؤسسات والأجهزة الحكومية وقليل من الطلاب والموظفين. اليوم أصبحت هذه الوزارة تتعامل مع حوالي 110000 مبتعث ومبتعثة إضافة لمرافقيهم، فضلا عن تعامل الوزارة مع آلاف الطلاب والطالبات سواء أكانوا ضمن برنامج الابتعاث الداخلي للجامعات الخاصة أو طلاب الجامعات السعودية.
هذا التحول في مسيرة وزارة التعليم العالي فرض نوعا جديدا من النمط الإداري والأداء المتقدم ليتوازى مع الكم البشري الجماهيري الذي وجدت الوزارة نفسها فيه ومعه، لكنه أبداً لم يدخلها في أزمة أو إدارة أزمات، كما هو المتوقع في مثل هذه الحالات، فلقد نجحت نجاحا باهرا. في الحقيقة ربما كان ارتفاع الطلب على خدمات وبرامج الوزارة سببا في ارتفاع مستوى جودة خدماتها التي تقدمها وبوتيرة عالية، حتى إنني كثيرا ما أقارن بين هذه الوزارة الحكومية في هذا الجانب مع البنوك المحلية، التي سقطت سقوطا مدويا وهبط مستوى خدماتها وتعاملها وجودة منتجاتها، عندما ازداد عدد المتعاملين معها وفقدت الكثير من صورتها النموذجية السابقة. يحدثنا المبتعثون والمبتعثات ويحدثنا المسؤولون اليوم عن علاقة نموذجية بين المبتعثين والملحقيات الثقافية السعودية في تواصلها وعنايتها وتقديم استشاراتها ومتابعاتها للمبتعثين والمبتعثات بطريقة لم نألفها نحن حين كنا مبتعثين فيما مضى من الدهر.
إن ما تقوم به وزارة التعليم العالي اليوم من برامج للابتعاث الخارجي - في ظني- يحقق 80% من المشروع الوطني الطموح وغير المسبوق لصناعة المستقبل الحقيقي لهذا البلد الذي يستحق أن يقطف "الثمرة". ولم يتبق لإتمام هذا المشروع - في تقديري- سوى "تمكين" المبتعثين في تلك الدول. و"التمكين" كما هو معروف للمشتغلين بالتنمية والمجتمع المدني، يتطلب التشبيك والتدريب والإقراض أو المِنَح. فعلى مسافة قريبة من كل جامعة يدرس بها مبتعث أو مبتعثة، توجد مؤسسات عملاقة في عراقتها وخبرتها وتجربتها. ولا تقل أبدا عن المعرفة التي يتعلمها ويتلقاها المبتعثون والمبتعثات من الجامعة. فمن الضرورة التفكير الجدي بتشبيك المبتعثين وربطهم بتلك المؤسسات كل حسب تخصصه، سواء كانت مؤسسات حكومية أو تجارية. وسواء كان ذلك خلال فترة الدراسة أو بعد التخرج لترتفع قدرات ومهارات واحترافية هؤلاء الشباب أضعافا مضاعفة بالتطبيق والتدريب في تلك المؤسسات المرموقة. حينها سيكون الطلب على هؤلاء الشباب عاليا في المملكة وخارجها. فمن أراد أن يعود للوطن "وهم الغالبية بطبيعة الحال" فسيقطف منه الوطن ثمرا متعددة ألوانه، ومن آثر البقاء والعمل هناكَ أو تملك استثمارا، يتم منحه قرضاً ليؤسس به عملا تجارياً أو صناعيا أو غير ذلك، ويكون العائد مشاركة مع الصندوق الحكومي المانح للقروض.
أعلم أن مشروع "التمكين" هذا ليس من صلاحيات وزارة التعليم العالي في الوقت الراهن وحدها، ومن الضروري أن تتشارك به جهات متخصصة عدة بل ويمكن إنشاء صندوق حكومي لهذا الغرض لو لزم الأمر، ولكن من الضروري أن تكون وزارة التعليم العالي ضمن تلك الأجهزة بل وتديره وتشرف عليه لأنها – بأمانة- هي الأكفأ والأقدر على ذلك، فلديها التجربة والخبرة المتراكمة ولديها رؤية واضحة.
لقد جمعتني وثلةً من المثقفين والمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال دعوة عشاء كريمة من الصديق الدكتور سعود المصيبيح المستشار في مكتب وزير الداخلية في منزله على شرف معالي الدكتور خالد العنقري وزير التعليم العالي، وقد تحدث معاليه بأفق يلامس عنان السماء وبواقعية ترفدها الأرقام مما جعلني أطرح هذه الفكرة، وقد كان منطقه ورؤيته سببا في كتابة هذا المقال، بالإضافة إلى سبب آخر وهو أن الوزارةَ ممثلة بملحقياتها الثقافية، أعلنت منذ فترة عن عزمها مقاضاة المبتعثين الذين يرفضون العودة للوطن بعد تخرجهم لتسديد استحقاقات البعثة عليهم.
لقد كانت سعادتي لا توصف بذلك الشاب السعودي الذي يدير فندقا ضخما في ماليزيا حين كنت في زيارة عمل هناك، وهي البلد الذي لا ينقصه أن يجد عشرات الماليزيين للقيام بهذا العمل لولا كفاءته وجرأته واستعداده.
يجب أن تكون لدينا الجرأة في هذه الخطوة، لأن العالم تغير كثيرا وتداخلت مصالحه وتشابكت همومه. وقوة الوطن بقوة أبنائه سواء كانوا في الداخل أوفي الخارج. ويجب أن نتجاوز المفاهيم الضيقة لمصالحنا، وأن نقتحم صناديق "الرهبة" من تلك المؤسسات ونؤثر في سياساتها وصناعة قراراتها. لقد حان الوقت لأن نذهب إلى تلك الدول، ليس كطلاب فقط ولكن أيضا كموظفين ومديري شركات وملاك لمصانع. ها نحن يعمل لدينا حوالي ستة ملايين من مختلف الجنسيات في كافة المجالات، لم ينقص منهم ذلك شيئا بل إنهم يحولون عشرات المليارات لبلدانهم. إن السعوديين العاملين في الخارج بعد تمكينهم، سيحولون من الأموال لبلدهم أرقاما مالية فلكية من عملهم أو من استثماراتهم. يا سادتي إن من يؤمن بالنجاح والإبداع ويملك الأدوات الحرفية لتحقيق ذلك، لا يمكن أن يكون سقف طموحه وظيفة تعلن عنها الخدمة المدنية أو ينتظر وظيفة تؤمنها وزارة العمل بعد أن يخليها أخ عربي أو أجنبي.
أخيرا، لا يمكن أن أختم هذه الموضوع دون أن أعرج على تجربة اليهود في تملك أو إدارة الكثير من مفاصل العالم و قوته عن طريق الاستثمار في أهم موارده. فهؤلاء القوم -رغم قلة عددهم- إلا أنهم أعملوا عقولهم، فأصبحت أقليتُهم كثرة وقوة ونفوذا وإدارة وقرارات. عن طريق الاستثمار الذكي في عدد من مؤسسات العالم والدول وقطاعاته المختلفة، ومن هنا جاءت قوتهم في التأثير على العالم وقطف الكثير من ثمراته.
فما الذي ينقصنا نحن؟ ولماذا لا نكون يهود العالم اقتصاديا وليس تاريخيا؟