هذه المقولة ترددت كثيراً في الآونة الأخيرة في المملكة إما كادعاء ساخر من آثار تسريبات الوثائق الأمريكية أو كمطالبة جادة من قبل البعض لأن تصبح لدينا منظومة تسريبات تكشف حقائق التلاعب في عقود المشاريع العامة أو غيرها من القضايا الاجتماعية والاقتصادية الرئيسة، وهذه المطالبة ارتكزت على دافع رئيس وهو أن مثل هذه التسريبات إذا وجدت لدينا ستكون أداة مهمة في كشف الفساد.
ويكيليكس ليست أداة لكشف الفساد، والغرب لا يعتمد في مكافحة الفساد على التسريبات في المقام الأول، الغرب لديه آليات تعمل على منع الفساد قبل وقوعه، وليس مجرد فضحه بعد وقوعه، وفي الغرب آليات متعددة للمكاشفة والمساءلة وهي آليات رسمية ولها نظم وأطر واضحة، ومن ثم فإن التعبيرعن التمني بأن يكون لدينا في يوم من الأيام تسريبات مشابهة لويكيليكس على الصعيد الداخلي هو شعور يعبر عن حالة انهزام من إمكانية أن نصلح أنظمتنا الرقابية بما يتيح لنا أن نتقدم خطوة للأمام.
ذكر كاتب هذه السطور في مقال سابق أن الكثير من الوثائق لا تعبر عن أكثر من مجرد نميمة سياسية، على سبيل المثال إحدى الوثائق وصفت رئيس وزراء روسيا ورئيسها بوتين وميدفيديف بأنها "باتمان وروبين" في إشارة إلى شخصيتي رسوم الأطفال المتحركة الشهيرتين، ومثل هذه الوثائق لا تحمل في طياتها أي قيمة معلوماتية إضافية. ولكن في المقابل، يتفق كاتب هذه السطور مع الدعوة أعلاه "يا ليت عندنا ويكيليكس"، وهو اتفاق ليس مبنياً على تمني وجود تسريبات في مجتمعنا، ولكن التمني في وجود منظومة عمل مشابهة للمنظومة التي شكلت وقود التسريبات في المقام الأول، وما يعنينا هنا ليس مضمون الوثائق المسربة، وإنما المنظومة الفكرية القائمة خلف حدث ويكيليكس بشكل عام.
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر اكتشف الأمريكيون أن أحد أكبر الأخطاء التي تسببت في تلك الكارثة ليس نقص المعلومات بقدر ما هو غياب التنسيق بين الأجهزة المعنية ومن ثم غياب المشاركة في المعلومات، وبناء على ذلك أطلقت الولايات المتحدة حملة لمراجعة أنظمتها نتجت عنها "مبادرة مشاركة المعلومات" (Information Sharing Initiative) وهي المبادرة التي وصلت قواعد البيانات في وزارة الخارجية والدفاع وغيرها ببعضها ، اعتماداً على فكرة أن تبادل المعلومات يوفر قاعدة أكبر للتحليل واتخاذ القرار مما سيعود بالفائدة في مواجهة أي خطر أو في القيام بأية خطوات، والاختراق الأمني الذي حدث كان نتيجة إعطاء إذن نفاذ (access) لعدد كبير من الأشخاص لتوسيع قاعدة التحليل، وهو ما سمح للعريف برادلي مانينج في الجيش الأمريكي أن يطلع على هذه الوثائق ويعمل على تسريبها لويكيليكس، وهنا يمكن القول إن الخطأ في التنفيذ لا يعني بالضرورة رفض الفكرة بقدر ما يعني اكتشاف مكمن الخلل ليمكن معالجته، وهو الأمر الذي طالما برع فيه الأمريكيون.
في المقابل نحن في المملكة نفتقد لوجود منظومة فعالة للتنسيق ومشاركة المعلومات بين الأجهزة المختلفة في الدولة، وهنا نشير إلى الفكرة دون الأخذ في الاعتبار تفاصيل التنفيذ التي يمكن أن نلائمها بحسب الحاجة والظروف، ولكن ابتداءً يجب علينا أن ندفع أكثر بثقافة المشاركة في المعلومة وهي ثقافة يمكن لها أن تساهم في دفع الكثير من العجز وضعف الأداء وتفتح باباً للتعاون بين عدد من أجهزة الدولة التي باتت جزراً منعزلة لا يربطها جسر أو حتى خط ملاحة.
بالنظر إلى الكم الهائل للوثائق المسربة فإن ما يهم ليس مضمون هذه الوثائق بالقدر الذي تهم فيه فكرة منظومة العمل التي أنتجت الوثائق، فهي تكشف عن وجود آلية صارمة للعمل والإنتاج وقودها الدبلوماسيون المتواجدون في سفارات الولايات المتحدة حول العالم، ولا يمكن في هذا الإطار إلا مقارنة هذا الإنتاج الكبير للمعلومات – بغض النظر عن قيمتها في هذا الشأن – بالإنتاج الصادر عن دبلوماسيتنا التي لا تزال بحاجة للاستثمار في موظفيها لكي نصل لمرحلة تكون فيها سفاراتنا ودبلوماسيونا أدوات فعّالة في الدول المتواجدين فيها سواء في جمع المعلومات، أو تقديم تحليلات أولية من الأرض، أو إنشاء قنوات متواصلة في تلك الدول، فالوثائق تكشف عن فاعلية الدبلوماسي الأمريكي في مراقبة ما يجري في الدولة المتواجد فيها وتكشف عن آلية متبعة لكي يستمر الدبلوماسي في فتح قنوات على عدة مستويات في تلك الدول بما فيها إعطاء مساحات للدبلوماسيين للتحرك على الأرض.
بالإشارة إلى النقطتين أعلاه: "يا ليت عندنا" منظومة مشابهة وإن كان الثمن لها هو ويكيليكس محلي لفترة مؤقتة.