وأعني بمهن الظل تلك التي يزاولها أصحابها بشكل نستطيع أن نصفه بأنه غير رسمي مع الإقرار بعدم وجود قرارات إدارية تعنى بهذا النوع مع العمل التجاري. ولغياب هذا التنظيم عدة أسباب، لعل من أبرزها في بعض الحالات أننا لا نريد الاعتراف بوجود هذه المهن ولا أصحابها، مع أننا جميعاً نستفيد منهم، ونتعامل معهم بشكل يكاد يكون مستمراً.
هناك أمثلة عديدة يمكن أن تُطرح حين يأتي الحديث عن مهن الظل هذه، أحد أمثلتها هي الدروس الخصوصية التي للأسف تتفشى حالياً لدى الطلبة من الحضانة وحتى الجامعة.. وتلك قضية أخرى.
أيضاً، لما كان عمل المرأة لا يزال قضية شائكة نتشاكس حولها كل يوم على صفحات الصحف، فإنه ليس من الغريب أن تحتل نصيب الأسد من مهن الظل هذه. فهناك مثلاً المغنيات أو ما يطلق عليهن "الطقاقات" في بعض المناطق، أو "اللعابات" في مناطق أخرى، أو "المنشدات" لدى فئات معينة في المجتمع. وإن اختلفت المسميات يظل نوع العمل واحداً وهو الترفيه عن المدعوات في الأفراح والليالي الملاح، سواء كان ذلك باستخدام الدفوف أو بالعزف على آلة "الأورج"، وسواء غنت المغنية (أبكي علي ما جرى لي) أو غردت المنشدة (يا طيبة)..، وجودهن واقع لا يكاد يخلو منهن حفل. وهناك أيضاً المزيّنات اللاتي يأتين للبيوت لتقديم خدمات تجميلية وترفيهية متنوعة، بالإضافة إلى النساء اللاتي يعملن من بيوتهن لتقديم المأكولات والحلويات المختلفة، ومعهن العاملات في مجالات لف الهدايا ولوازم الأفراح وتجهيزاته المختلفة، بل صار لدينا مؤخراً سيدات مستقلات يتولين إدارة تنظم الحفلات أو ما يعرفن في العالم الغربي بـ(Wedding Planner).
لا يوجد نظام ضريبي في بلادنا، ولا يوجد نظام يُلزم هؤلاء الناس الذين يعملون في الظل بأن يسجلوا نشاطهم لدى أي جهة، وبالتالي لا توجد أي رقابة على ما يقومون به ولا على الخدمة التي يقدمونها، ولعدم وجود عقود في الغالب بالرغم من أننا نتحدث عن معاملات تجارية قيمتها آلاف الريالات، فإنه ليس ثمة قانون يحمي أصحابها ولا يحمي الناس منهم.
فماذا لو أن المدرس الخصوصي مثلاً لم يحضر الدرس الأخير قبل موعد الامتحانات؟ أو لو أن الطالب لم يقم بعد نجاحه بتسديد كامل المبلغ؟ هل يشتكي أحدهما الآخر في قسم الشرطة مع علمهما بأن الدروس الخصوصية مخالفة للنظام بالأصل؟
وماذا يحصل حين تمتنع المغنية عن إمتاع الجمهور في ليلة فرح تكلف أهلها الكثير فيها؟ ومن الذي يحدد أصلاً إذا ما كانت هذه السيدة تملك حنجرة صالحة للغناء وأن صوتها لا يمكن اعتباره من الضجيج الملوث للبيئة؟ وهل هناك معيار يحدد ما هو الثمن الذي تستحقه هذه المطربة أو تلك؟ الأسعار تتفاوت ما بين ألف إلى أربعين ألف ريال في الليلة (فيما أعلم). بل ماذا باستطاعة أهل العرس أن يفعلوا فيما لو امتنعت الفرقة عن بكرة أبيها عن الحضور ليلتها؟ هل بوسعهم أن يرفعوا قضية ضدها أمام محكمة شرعية يرى جل قضاتها بأن الغناء حرام أصلاً؟ هل نحتاج إلى نقابة أو جهة مسؤولة عنهن؟
وبالنسبة للعاملات في مجال التجميل، من يضمن بأن المواد التي يستعملنها مثل الصبغات والكريمات صالحة للاستخدام ولن تتسبب بأية أضرار للبشرة؟ وفيما يتعلق بالعاملات في مجال المأكولات.. ماذا يحصل لو أصيب أحدهم بالتسمم الغذائي نتيجة استخدام مواد منتهية الصلاحية؟
في المقابل أيضاً، هل يملك البائع أية حقوق فيما لو أخل الطرف الثاني (المشتري) بالعقد "الشفهي" ولم يعطه قيمة أتعابه؟
إن استمرار بل وتكاثر هذا النوع من المهن رغم كل هذه المخاطر والمجازفات من قبل الطرفين يعكس شيئاً إيجابياً هنا، وهو التزام الكثير من الناس بهذه العقود الشفهية، وذلك عائد لأسباب دينية وأخلاقية وليس التزاماً بالقانون ولا خوفاً منه. ذلك أمر جيد، ولكنه قطعاً لا يمكن الركون إليه وحده في عالم المال والأعمال وفي المعاملات الدنيوية بين الناس. فحتى لو عدنا للجانب الشرعي، سنجد أن الإسلام يحث على الصدق والأمانة ويحرم التدليس والظلم والسرقة، ولكنه في الوقت نفسه يقيم نظاماً عقابياً لمن يثبت قيامه بالمخالفة، وهناك تشديد في مسألة توثيق العقود بأنواعها كتابياً سواء في التجارة أو الدين أو الوصية.
لا شك أن تكاليف الحياة كثيرة وأن طلب الرزق الحلال أمر مطلوب ومرغب فيه، ومع شح الوظائف أو عدم ملاءمتها لظروف الإنسان، فإن المرء سيبحث عن مجالات أخرى للدخل، لا سيما إذا كان صاحب حرفة أو هواية أو ملكة ما تتيح له أن يحقق مكاسب ممتازة من عمل يحبه ويجيده، وهذا الأمر أوضح ما يكون حين يتعلق بالمرأة، التي لديها من العوائق ما يجعل فكرة العمل من بيتها ملحة. فهناك المسؤوليات الأسرية، وصعوبة المواصلات، وضيق مجالات العمل، وعدم موافقة ولية الأمر، والقناعات الدينية، وبالتالي فتشجيعها للعمل من بيتها أمر مطلوب. لكن السؤال الذي يُطرح هنا هو هل يمكن القيام بذلك وفي الوقت نفسه تلافي السلبيات التي قد تقع؟
العاملون في المجال الاقتصادي أو التجاري هم الأقدر على الإجابة عن هذا السؤال، وأنا واثقة بأن الجواب سيكون بنعم. وحينما يكون هناك نظام ـ على علاته ـ فإنه يمكننا أن نعمل من خلاله أو نطوره، لكن حين يغيب النظام من الأساس فإننا سنبقى في المربع الأول.. تائهين لا نعرف بأية اتجاه نمضي.