في الثقافات التقليدية يمثل التنظيم لحظة ارتباك للتلقائي والانفعالي، وتخرجه من حيز السلوك المنفلت الذي يعبر به عن الموقف إلى حيز يحافظ فيه على حريته في اتخاذ أي موقف أو شخصية يريد، ولكنها تنظّم طريقته في التعبير عن ذلك سلوكا وممارسة، فالتعبير عن الموقف وعن السلوك وعن الذات مسألة ترتبط بالآخرين، وعليها ألا تعتدى عليهم، وهذه هي ثقافة المؤسسات في الدولة الحديثة، فليست المؤسسة معنية بإصلاح الفرد إذا كان متهورا في ذاته وفي حياته الخاصة، لكن مسؤوليتها تكمن في منع ذلك التهور من أن يتحول إلى ممارسة وسلوك يؤذي الآخرين.
في الأسبوع الماضي كان نظام (ساهر) المروري الذي تطبقه وزارة الداخلية، ولائحة النشر الإلكتروني التي أصدرتها وزارة الثقافة والإعلام المحورين البارزين في المشهد الإعلامي والاجتماعي السعودي، من خلال مواقف وردود فعل، يمكن في النهاية التعامل معها على أنها نماذج للممانعة التي يقابل بها التنظيم الذي هو مضيفة المؤسسة الحديثة من قبل الخائفين من التنظيم، وهو خوف مرده الحرص على عدم التفريط في التلقائية والانفعالية وذلك سلوك مألوف في الأوساط التقليدية.
بالنسبة لنظام ساهر فمهما كان حجم المخاوف والملاحظات التي يبديها الشارع على تطبيقه، فالواقع يؤكد أن ما تركه من جدوى، وما سيعكسه من آثار إيجابية أمرلا يمكن التضحية به، خاصة أن تجاربنا مع كل أشكال التوعية والتلقين ومحاولة إيجاد ثقافة مرورية متحضرة قد باءت بالفشل، وفي مختلف دول العالم تمثل كاميرات الرصد المروري إحدى أهم وسائل الضبط المروري، كما تمثل الغرامات المالية جزاء متبعا في مواجهة كثير من المخالفات، والأرقام التي تم تداولها مؤخرا وبشكل غير رسمي عن أن مجموع ما حققه نظام ساهر من غرامات مالية قارب مبالغ تصل إلى المليار ريال – حسب بعض مواقع الإنترنت – فحتى لو سلمنا بحصة ذلك الرقم فهو لا يعكس مشكلة في نظام ساهر بقدر ما يثبت مدى الحاجة إليه. لقد أثبت نظام ساهر أن بإمكان المؤسسة أن تطبق ما ترى فيه حماية للشارع من سلوك وتصرفات ما قبل المؤسسة، إذا ما نظرنا إلى حجم الخسائر والوفيات والإصابات الذي تتحدث به الأرقام كل عام، وأثبت كذلك أن تحجج كثير من الوزارات برفض المجتمع لقرار ما يعكس حالة قلق داخل كل مؤسسة تؤخر قراراتها خوفا من الاحتجاج الاجتماعي فكل نظام لا يمثل عدوانا على أحد هو نظام سائغ للتطبيق وكل قرار يراعي المصلحة لا يمكن أن يمر دون اعتراضات، والذين يرون في تلك الاعتراضات احتسابية كانت أو اجتماعية مبررا لتراجع قراراتهم هم في واقع الحال لا يؤمنون بدور ومسؤولية المؤسسة.
إن نظام ساهر في فكرته وفي القيمة التي يطبقها لا يعتبر جديدا على الإطلاق، بل هو نوع من تحويل (قسيمة) المخالفة من كونها قسيمة ورقية لتصبح قسيمة إلكترونية، ومن كونها تستلزم توقف السائق على أحد جانبي الطريق وانتظار أن يبحث شرطي المرور عن قلم يستند بعده على غطاء السيارة لكونها تتم بشكل رقمي وآلي سريع، ولا أظن أن فكرة الغرامات المالية على المخالفات المرورية أمر جديد أو مثير للاستغراب، لكن الجديد هو تحول ذلك الإجراء من شكله القديم إلى شكل حديث أكثر صرامة وجدية.
على الجانب الآخر ومع مطلع الأسبوع الماضي أعلنت وزارة الثقافة والإعلام لائحة لتنظيم النشر الإلكتروني، بعد سنوات من بقاء الإنترنت مطلقا دون أي تنظيم، وحتى ما هو قائم من تنظيمات رغم إيجابيتها إلا أنها تحمل صيغا بعيدة في الغالب عن الرؤية والتنظيم بمفهومه الإعلامي. وهو ما مثل تحديا كان لابد لوزارة الثقافة والإعلام من مواجهته والعمل على تنظيمه خاصة مع ازدهار الخدمات الإعلامية المقدمة إلكترونيا وما صاحبها طوال الفترة الماضية من توظيف سلبي لمختلف أنشطتها وتحولها إلى منبر للممانعة والمواجهة، حيث أثبتت دوائر متنوعة في الثقافة المحلية عدم قدرتها على أن تدير خطابا متوازنا حين تكون بلا رقابة وهو ما ظل يطرح سؤال التنظيم حول هذه الفعاليات الإلكترونية، إلا أن ردود فعل مشابهة لتلك التي رافقت تطبيق نظام ساهر انهالت على وزارة الثقافة والإعلام ورأت في اللائحة محاولة للسيطرة على ما لا يجب السيطرة عليه، ونوعا من الوصاية التي تسعى الوزارة لفرضها على النشر الإلكتروني، فيما إن السنوات الماضية أكدت أهمية عدم ترك الإنترنت بعيدا عن التنظيم، حين تحول إلى منبر للانفلات والتحزب وإثارة الفتن، وأصبح إنشاء صحيفة لا يكلف سوى نية وتوجه وخصومة.
ولأن نظام ساهر يتعلق بمسألة أمنية ويمثل تحديثا لواقع قائم منذ زمن بعيد، وهو الغرامات المالية على المخالفات المرورية، فليس من الممكن أن يتم طرحه لنقاش شعبي واجتماعي، بينما في نظام النشر الإلكتروني والذي يتعلق بجانب إعلامي وجمهور محدد يمكن حصرهم، فقد طرحت وزارة الإعلام وبكل ثقة اللائحة الخاصة بالنشر الإلكتروني للنقاش وإبداء الرأي وطرح الاقتراحات التي من شأنها تعزيز اللائحة ودعمها، وهي فكرة تبدى حرص الوزارة عليها في تصريحات معالي الوزير وعلى لسان المتحدث الرسمي، ربما أكثر من فكرة الحث على الإسراع في تطبيق النظام، خاصة أن وزارة الثقافة والإعلام باتت تدرك أن جمهورها في الوسط الثقافي والإعلامي مؤهل للشراكة والتعاون، وهو مرد هذا التركيز الذي تلح عليه الوزارة في أن اللائحة مطروحة للاقتراح وإعادة النظر.
إن الأهداف التي تتمثل في الدعم والتنظيم وبيان وحماية وحفظ حقوق الأشخاص، تمثل في الغالب أهداف مختلف التنظيمات التي تصدرها الوزارات انطلاقا من وعيها بدور المؤسسة في الدولة الحديثة، وما يحدث في نظام ساهر مثلا، وفي لائحة النشر الإلكتروني هو سعي لذات الهدف، لكن الخائفين من التنظيم ممن يرفضون أي ترشيد ينظم سلوكياتهم هم في الواقع مغرمون بحياة ما قبل المؤسسة.
إن لائحة النشرالإلكتروني، ونظام ساهر وغيرهما من التنظيمات المدنية الحديثة هي الدور الحقيقي للمؤسسات الوطنية التي تستوعب دورها، والتي تمثل سندا فعليا للتوجه التنموي، ذلك التوجه الذي عليه أن يدرك أن جمهور المؤسسات ليسوا دائما على مستوى الوعي الذي لدى المؤسسة، ولذلك لا يجب أن يمثلوا حجة لبعض المؤسسات ليتراجع دورها أمام الخائفين والمحتسبين. لأن ذات معايير الاحتجاج لدى خصوم ساهر هي ذاتها لدى الرافضين لتنظيم الإعلام الإلكتروني، مع اختلاف في الموضوع فقط.