هذا الجيل يفهمك جيداً حينما تكتب له عن ملاعق السكر، والوقت الرائق بالنعناع، ونقوش المرايا، وجلسات "الكوفي شوب"، وسيشعر أنك معه على الخط إن وصفت له عطر الشموع، وأسرة نوم الجميلات، وحلاوة ريق القصيدة.
في المقابل فإن هذا الجيل السلس في كل أنماط حياته، لن يفهمك أبداً حينما تكتب له عن ظل الشجرة، وبهاء القمر، ومدى فرح الناس بدفء الشمس بعد ليلة باردة، بل وسيعتبرك قديماً تلعب في مدارات قوم عاد إن وصفت له وجه حبيبتك المصطفاة بوجه الشمس، أو شبهت له نعومة خديها بتفاح الشام، هذا الجيل ليس بدوياً في التعبير والأوصاف والمصطلحات، ولا يعرف شيئاً عن قضاء الليل –كذباً- تحت شباك الهوى، ولا عن البيد والغيد والجبال السمر، والوتد والربابة، ومحاسن "العرضة" و "السامري".
تفاصيل حياته تختلف كثيراً عما هو موجود في دواوين الشعر الجاهلي والأموي والعباسي، والمقررات المدرسية التي تزعم أنها معاصرة، حتى وإن فُرضت عليه، دراسياً، فهو سيتعامل معها كالزكام والحصبة والأنفلونزا العارضة التي يصبر عليها لحين ميسرة، ثم يقفز مباشرة إلى لغته الجديدة عند أول فرصة للتحرر.
هذا جيل لغته سهلة ومبسطة يمكن لها أن ترتب لك حقائب السفر بجملة موسيقية، وأن تشدك من أذنيك لفكرة خرجت لتوها من فم عصفور مطارد، لغة ليس فيها الكثير من التقارير الحكومية، أو علامات التعجب الجامدة والنمطية، ولا حتى الأمكنة الشاغرة لخلافات ومصطلحات سيبويه وابن جني والأصمعي والجاحظ وبقية الرفاق، الحس التعبيري مختلف، العلاقات الحميمية مع "الكيبورد" والجوال وقهوة الصباح، وقوارير العطر، و"فاترينات المولات"، أصبحت راجحة الكفة في مقابل السيف والبندقية، والرمل والطين، وهي لغة إنسانية بحتة تحتفي برضاعة حليب، وتتفاعل مع لوحة فنان، ولها القدرة على استيعاب الشعور بإحباط موعد غرامي لم يتم، وحلم "نوتة" قتله "موسيقار" أحول.
المشكلة أن شعراء الشمس والشجرة، في المدرسة وخارجها، شاخوا ولم يقتربوا يوماً من المدن الشعرية الرائقة التي تأخذ شكل ابتسامة طفل، وتغطي رأسها بموال شارد، وتعاشر أحبابها في جوف تمرة، ولذلك أخلصوا للمصطلحات والأوصاف التي كانت جميلة، لكنها لا تصلح اليوم للاستخدام الأدبي وربما الآدمي.
المتلقي الشاب استفاد من عصره الإعلامي وتعمق في تفاصيله اليومية المدهشة، ولم يعد بحاجة لجبال أخرى كجبل ابن خفاجة الشهير كي يتعلم جلال الوصف، ولا لضرع ناقة عجفاء كالبسوس كي يشعر بألم الفقد والحرمان، فلديه لغته الباذخة التي لم تكتشف بعد. وبالتالي فالمسايرة مطلوبة قدر الإمكان لما يشاهده المتلقي الشاب ويتعامل معه، بطريقة أو بأخرى.. إنها لغة الصورة المستفيضة التي لا تتعب في إيصال المعنى، وعلى الشعراء محاولة اللحاق بها.
إنني مثلكم أعشق دفء الشمس وضوء القمر وحلاوة ظل الشجرة، وأطرب لوصف ابن خفاجة، وأتعاطف مع البسوس، إلا أنني أعتقد في المقابل أن ذائقة الجيل الرقمي الجديد تجاوزتها إلى عوالم تعبيرية أخرى، وفضاءات أوسع من خيال معطوب لناظم معاصر، ومن هنا فلا تثريب على الجيل الجديد حينما لا يفهمون آلام الوجد الكامنة في قلوب شعراء الشمس والشجرة وتفاح الشام، لأن هؤلاء قد فشلوا في إيصال الصورة، ومن الصعب العمل على صور متخيلة وقديمة، ففضاء الشعر اليوم مغاير تماماً لما كانت عليه الأجيال التي سارت في ركاب الخليل، أو تتلمذت على "مواسيره" وأعمدته الشهيرة، ولذلك تجد أغلب الطلاب الذين اتجهوا إلى الكتابة الأدبية، بكل أنواعها، بعد تخرجهم من المدرسة يدينون بالفضل لما قرؤوه خارجها وليس داخلها، ولو استثنينا –تأدباً- الشعر الجاهلي وبعض الأموي والعباسي على علاته المدائحية الكثيرة لوجدنا أن جل ما يتعلمه أبناؤنا هو أقرب إلى الجريمة الحسية والشعورية منه إلى الأدب، حتى إن أغلبهم لا يتذكر بعد تخرجه نصاً أدبياً أخذه إلى عوالم جميلة وخلاقة قرأه وتأثر به داخل المدرسة مما يطلق عليه أدب مدرسي معاصر إلا نادراً. وفي الحقيقة لا يمكنني أن أطلق على مادة الأدب في المدارس أدباً إلا من باب المجاز والمتعارف عليه فقط، فتلك النصوص الجافة والميتة تقطع الصلة مع العصر تماماً، ومع ذلك يتعلمها أبناؤنا في مدارسهم ويُطلب منهم حفظها بكل جلافة، وكأنه لا آفاق تعبيرية جديدة ومعاصرة يمكنها أن تخرجنا من هذا القتل التعبيري المتعمد، إلا الشمس والشجرة وتفاح الشام.