يقول فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد بن إبراهيم السعيدي، في مداخلته الشهيرة في جلسة الحوار الوطني الأخير: (سأروي لكم قصة من التاريخ، ففي العام 1779 دخلت حملة نابليون الفرنسي إلى مصر ورغم أنها وعدت الناس بقيم الحرية والقانون والعدالة، وحملت معها أجهزة المطبعة وبذور العلم الحديث، إلا أن الناس ما لبثت أن ثارت ضد الحملة الفرنسية فلم يستغرق الوقت سوى أقل من ثلاث سنوات حتى دحر الفرنسيون وأخرجوا من مصر في بواكير عام 1801، لأن أهل مصر كانوا يرغبون أن يكونوا تحت ظل الدولة العثمانية برغم ما فيها من الظلم والاضطهاد وكبت الحريات: أتعلمون لماذا؟ لأن الدولة العثمانية ستعطي هؤلاء من غطاء الدين ما لا يعطيه الفرنسي المحتل) وبكل تأكيد مطلق، لن يرضى وطني أو مسلم بقيود الاحتلال مهما كان تبرير الوصاية والاستعمار، وبكل تأكيد لا يقبل الشك، فإن الخيار للمسلم إن كان بالضرورة حول نمطين من الوصاية أو الاستعمار سيكون للحاكم المسلم. هذه هي البدهيات ولكن: اقرؤوا بشيء من التحليل ما يقوله عقل الوصاية في المداخلة السابقة: إنه يضع المقارنة والمقاربة بين نمطين من الاحتلال والحكم: نمط القانون والحريات والتعليم والمطبعة وقيم الثورة الصناعية ونمط الاضطهاد والاستعباد وفرض التخلف وكبت الحريات. ثم إن علينا أن نقبل الأخير لأنه وبشهادة فضيلة الشيخ يعطينا كل هذه القيم السالبة من هوان الإنسان واستعباده وإذلاله ولكن في قلب قالب متأسلم. إن فضيلته، وبدون قصد أو عمد يريد تصوير الحاكمية الإسلامية بتلك المقاربة، وللحق، فلم أسمع في حياتي بأكملها جملة تشويه لفكرة الحاكمية الإسلامية بمثل ما استمعت إليه في مداخلة من جملة متصلة واحدة. هل يريد هؤلاء أن يقولوا لنا إن الإسلام هو دين الاضطهاد والاستعباد وإن المقابل الغربي الاستعماري هو فكرة العلم والحداثة والحرية؟ هل يريد لنا أن نقبل بفكرة الحاكمية المستبدة وأن لا يكون لنا خيار فيها مهما كانت وطأة الفكرة وثقلها على رقاب الناس وظهورهم. هذه بالضبط، معضلة ـ الإسلاموي ـ في العصر الحديث. إنه يريد تسويق فكرة الغلاف الديني مهما كانت سوداوية الأوراق بين الغلافين. يريدنا أن ننحاز للاستبداد وفرض الجهل ضد العلم والتحديث لأن الأول يسوق إلينا فكرته عبر نسخة مزيفة من هذا الدين العظيم. هذا الدين العظيم الذي كان رفعة للإنسان وتكريماً له. هذا الدين العظيم الذي ساوى بين أبي سفيان وبين بلال، وبين العباس بن عبدالمطلب وبين سلمان الفارسي. هذا الدين العظيم الذي اشترى به الفاروق عمر بن الخطاب مظلمة امرأة من رعيته بخمسة وعشرين درهماً وبشهادة ابن مسعود على وثيقة شراء للمظلمة ثم طلب الفاروق أن تدس الوثيقة في كفنه ليلقى بها ربه. ماذا يريد هؤلاء من هذه المقاربة والمقارنة بين نمطين؟ إنهم يريدون لنا مثالاً أن نقبل بفكرة ـ طالبان ـ بكل شواهد الجهل والتخلف ونزاع السلطة الدامي ورعاية أوكار ـ القنب ـ والمخدرات لأنها قدمت نفسها تحت فكرة تدغدغ العقل بمفردة الجهاد وثوب مزيف من تعاليم هذا الدين. إنهم يريدون، بالمثال، أن يقولوا للجماهير إنه لا خيار اليوم إلا بين بني عثمان وبني طالبان أو بين بني علمان: سيعطيك الأخير قيماً من العدل والقانون والعلم وحرية الإنسان ولكن سينزعون منك ثوب الدين وحجاب العفة، وسيعطيك الأول هذا الثوب ولكن فارغاً من أي استخلاف أو كرامة للإنسان في الأرض. هؤلاء يهربون إلى كل فكرة مستبدة طاغية ليصنعوا منها المثال وهؤلاء يتناسون فكرة تعيش اليوم على الأرض: هؤلاء لا يتطرقون للفكرة السعودية الخالصة: بلد يزاحم فيه المسجد المسجد، وتشاهد المنارة، منارة المسجد المقابل، وتستطيع أن تذهب لمحكمة تدافع عن حقوقك بالآيات الكريمة والحديث الشريف. فكرة لم تأت لأهلها وشعبها بوضعية قوانين حملة نابليون ولم تلبس ظلم بني عثمان وكهفية طالبان أو مطالب بني علمان. والذي يجب أن يدركه هؤلاء أن تسويق هذا المفهوم من الحاكمية لن ينطلي على تنوير العصر الحديث. الدين والتدين كما برهن التاريخ قصة فردية والمسلم الحقيقي سيهرب بنفسه على الدوام إلى شمس الحرية والعلم والقانون وقد يشعر المسلم بكرامته وحريته في التدين والالتزام والدعوة في لندن أو باريس أضعاف ما يشعر بها في قندهار أو دارفور. اعملوا استفتاء بسيطاً لتكتشفوا أين سيهرب المسلم الحقيقي لو أن الخيار كان ما بين النمطين في تلك المدن الأربع.