أكتب لكم مقالي من بلاد العجائب ـ جمهورية الهند ـ سابع بلدان قارة آسيا حجما، وثانيها من حيث عدد السكان، بلد مزدحم بتنوع الأديان الإلهية، والحضارات والفلسفات والثقافات البشرية؛ إسلام، مسيحية، يهودية، هندوسية، بوذية، سيخية، جاينية، مجوسية ـ زرادشتية ـ؛ وبلد مزدحم بتعدد اللغات والأعراق. من أهم زعماء الهند (المهاتما غاندي) ـ المهاتما تعني الروح العظيمة ـ وهو محام متمرس، ويعتبر الزعيم الروحي والسياسي الأبرز في تاريخ الهند المعاصر. من أبرز خصاله؛ أنه قاد بلاده للاستقلال، بدون أي عنف يذكر، وبدون أي خسارة حضارية تنشر؛ سوى تكوين ولاية منفصلة عن الهند أُطلق عليها (باكستان)، بناء على دعوة الزعيم المسلم محمد علي جناح؛ التي أدت دعوته الانفصالية إلى نزاعات حدودية طويلة، نتج عنها مجموعة من عواقب وخيمة يعاني منها حاليا إخواننا الباكستانيون، في حين كان الاتفاق على صيغة معاش واحد هي الأفضل للجميع. (موهنداس كرمشاند غاندي) ـ وهذا اسم المهاتما ـ حزن كثيرا على هذا الانقسام وهذا التقسيم، وحاول جادا منعه، وطالب جماعته من الأغلبية الهندوسية باحترام من يجاورهم من المسلمين، ودفع ثمن ذلك أن قام أحد الثوار الهندوس باغتياله، بعد أن نجا من خمس محاولات سابقة.
الهند عانت من انتشار الفساد وبطء النمو الاقتصادي، وبسبب ذلك قررت مجموعة من الإصلاحات الاقتصادية التي حولتها خلال العشرين سنة الماضية إلى واحدة من أكبر الاقتصاديات نموا ـ الدولة الثانية عشرة اقتصاديا، والرابعة شرائيا ـ. وتطور إخواننا وأصدقاؤنا الهنود تطورا ملحوظا جدا، وأصبحت دولتهم رائدة على مستوى الصعيد العالمي، وثالث أكبر قوة عسكرية في العالم، وسادس أكبر قوة نووية. وبعد أن كان الهنود عمالا بسطاء في بلادنا، أصبحوا يديرون أكبر شركات العالم، منها ما هو هندي، ومنها ما هو متعدد الشركاء؛ سيارات ـ جاكوار، لاند روفر، تاتا ـ أفلام، فنادق، جامعات، برامج وعلوم إلكترونية، طب تقليدي حديث، وطب بديل عريق يسمى أيورفيدا ـ Ayurveda ـ الذي يعني بالهندية (علم الحياة).
هند اليوم تختلف عن الهند القديمة تماما؛ بلد يتطور بشكل متسارع جدا، والتوقعات العالمية تشير إلى استمرار هذا التطور على الأقل بشكل أكبر خلال السنوات العشرين والأربعين القادمة. من الأسباب التي جعلت الخبراء يجزمون بهذا الرأي الدقيق هو أن الهند وضعت على رأس أولويات اهتماماتها التعليم ثم التعليم ثم التعليم، وبعد ذلك تأتي الروافد الأخرى المعضدة لرأي الخبراء، من مثل أن أغلب الشعب الهندي هم من فئة الشباب ـ ثاني أكبر قوة بشرية منتجة في العالم ـ، وأن القطاع الخاص فيها قطاع فاعل ومؤثر جدا، وأن الجو الديموقراطي الهندي جو غير ملوث. ولكي أكون منصفا أذكر أن الهند تعاني من مستويات الفقر، والأمية، وسوء التغذية، ونقص البنية التحتية، وذلك بسبب ما عانت منه قديما، ولكن هذه المعاناة كما يقول الخبراء المنصفون: "لن تطول، وهذه الصور ستتوارى خلف الانتعاش الاقتصادي الحالي، وأن الهند ستبتعد تدريجيا عن الغرب وتأثيراته، وستعود الهند مجددا لمكانتها التاريخية كبلد يربط ما بين الحضارات الكبرى". وبالفعل، وبسبب التعليم ثم التعليم ثم التعليم هاهي الهند تقدم نفسها اليوم كبلد تتعايش فيه الأديان والحضارات دونما صراعات، وهو ما يبرهن للعالم أن فرص التعايش السلمي قائمة بين الأديان والحضارات والثقافات المختلفة، داخل الحي الواحد، والمدينة الواحدة، والبلد الواحد، والعالم الواحد، والهند خير دليل، ففيها أكبر جالية مسلمة، يفوق عددها المئتين مليون، يعيشون بسلام.