يقول المثل الغربي: "يجوز لك الاستحواذ على الكيكة، ولكن لا يجوز لك أكلها كلها وحدك". مما يعني أن الإنسان يستطيع أن يطالب مثلاً بمطلب سام، مثل السلام؛ ولكن عندما يحصل عليه، يجب أن يجعله يعم الجميع؛ لا عليه هو وحده فقط دون غيره. وإلا فقد أول وأهم مطلب للسلام نفسه، وهو أن يعم الجميع، ليتحول من مبدئه الخاص، لمبدأ الجميع العام، ومن ثم يتحول مطلب المحافظة على السلام إلى مطلب ومبتغى الجميع، لا مطلبه هو وحده ومبتغاه. أي أن الخيرات المكتسبة من السلام، يجب أن يحصل عليها أعداء داعية السلام، بنفس الدرجة التي يحصل هو عليها؛ وإلا فلن يكون هنالك سلام دائم أو منشود.

على سبيل المثال، دولة إسرائيل، أكثر من يتحدث ويطالب بالسلام؛ ولكنها تطالب بالسلام الذي هي تجني ثماره، لا أعداؤها، ولذلك لم تنله، وأصبحت عدوة السلام الأولى بالعالم، برغم كثرة مطالباتها ومناداتها بالسلام. وذلك لكونها تنطلق من فكر عنصري، تعتبر من خلاله نفسها "شعب الله المختار"، وغيرها شعب الله الضار. إذاً فإسرائيل ينطبق عليها المثل الغربي الذي يقول "يجوز لك الاستحواذ على الكيكة؛ ولكن لا يجوز لك أكلها كلها وحدك". فإسرائيل تريد الاستحواذ على كيكة السلام؛ ولكنها تريد أن تأكلها كلها وحدها. وهذا ما جعلها في أزمة دائمة، ليس فقط مع جيرانها العرب، ولكن مع العالم أجمع.

وما يصح على مبدأ كيكة السلام، يصح كذلك على مبدأ كيكة المساواة. فلا يمكن أن يطالب أي إنسان بمساواته مع غيره، ويحتج بشدة على التمييز السلبي ضده؛ وبنفس الوقت، هو يميز نفسه ضد غيره كما هو يتوهم. وبما أن المطالبة بالسلام من صالح طرف واحد هو مدعاة للحرب وتقويض للسلام نفسه ونفي له؛ فكذلك المطالبة بالمساواة لطرف واحد والتغاضي عن مساواة أطراف أخرى، هو تقويض مقصود لمبدأ المساواة نفسه ونفي له، شئنا أم أبينا. فمبدأ المساواة، بالتحديد، هو مثل مبدأ السلام، لا يمكن قسمته على واحد أو المطالبة به من أجل نوع واحد؛ فإما أن يكون للجميع وإلا فلا يمكن أن يكون لأحد بعينه دون غيره.

فمبدأ المساواة يتماثل كثيراً في جوهره مع مبدأ السلام؛ حيث مبدأ السلام ينشر السلام والأمن والاستقرار بين شعوب ودول العالم؛ بينما مبدأ المساواة ينشر السلام والأمن والاستقرار والعيش المشترك بين أفراد المجتمع الواحد ومواطني الدولة الواحدة. كما أن المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، تعود له بالخير والمنفعة كله، بلا استثناء، ففكرة السلم الجماعي تصبح جزءا لا يتجزأ من ثقافته، ومحركه في وعيه ولاوعيه؛ وعليه تنمو لديه وتزدهر فكرة السلام العالمي، ويصبح من أول المطالبين بها والمدافعين عنها والمحتجين على انتهاكها والاعتداء عليها. ولذلك فليس من المستغرب، أن تخرج المظاهرات الشعبية الحاشدة والعارمة، في الدول المتحضرة، ضد انتهاكات العدو الصهيوني العنصرية واللاإنسانية ضد الشعب الفلسطيني، وبنفس الزخم، تفعل ذلك ضد الانتهاكات اللاإنسانية والعنصرية التي ترتكب ضد شعب دارفور في السودان.

بينما في الوطن العربي والعالم الإسلامي تخرج فقط المظاهرات الشعبية ضد الممارسات القمعية الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني، وأما ما يحدث في دارفور من انتهاكات لاإنسانية ضد النساء والأطفال والشيوخ والعزل، فلا تعنيها في شيء، وكأنها ترتكب ضد حيوانات متوحشة، إن لم نقل يتم التبرير لها. وهذا ناتج عن كون مبدأ السلام الحقيقي والجوهري، حتى الآن لم يتجذر في ثقافة المجتمعات العربية والإسلامية. وذلك بسبب، عدم تجذر ثقافة المساواة بين أفرادها وطوائفها داخلها. والشعب والمجتمع الذي تنعدم فيه المساواة، وبالتالي لم تتجذر فيه ثقافة السلام والتعايش السلمي؛ لا يمكن الوثوق في عقد معاهدة سلام معه، فقد يعتبرها هو مجرد معاهدة وقتية، يعيد ترتيب نفسه ثم ينقضها في أي وقت.

فمثلما الحرب هي عدوة السلام ونقيضتها، فالتمييز هو عدو المساواة ونقيضها. وهنالك العديد من أنواع التمييز، والتي هي نقيضة المساواة؛ فمنها التمييز العنصري في اللون أو العرق، وهنالك التمييز "الجنسي" ذكر وأنثى؛ وهنالك التمييز الطائفي، مذهبي أو ديني؛ وهنالك التمييز المناطقي؛ وكلها جرائم ترتكب في حق المجتمع التي تنتشر فيه. وتتساوى جرائم التمييز في قبحها ووقاحتها، فلا يمكن تهوين واحدة مقابل أخرى، كما لا يجوز تهويل واحدة ضد أخرى. فكل جريمة منها، هي بالضرورة، تعاضد الأخرى وتشرعن لها، وهذا من غباء التمييز بجميع أنواعه وأشكاله.

فلا يمكن أن تجد نوعا واحدا من التمييز في مجتمع؛ وتختفي فيه بقية أنواعه. فالتمييز في الأول والأخير هو "باكج" يؤخذ كله أو يترك كله، ولا مجال للانتقائية فيه. فالتمييز هو وباء يصيب المجتمع، إذا حل فيه، فلا يمكن أن ينجو من شروره أحد، ولو ظن ذلك. ففي المجتمع الذي ينتشر فيه التمييز، يصبح كل أفراده بدون استثناء ضحايا له وبنفس الوقت، لهم ضحايا بسببه. والأدهى من كل ذلك، أن كل من يعطي نفسه الحق في التمييز ضد غيره، هو في الأول والأخير، يشرعن ويعطي الحق لغيره، من حيث يعلم أو لا يعلم، للتمييز ضده.

فعلى سبيل المثال؛ الرجل الذي ينتمي لأقلية عرقية أو مذهبية أو مناطقية ويميز ضد المرأة ويغبطها حقوقها، كإنسانة ومواطنة، بسبب ضعفها في المجتمع؛ فهو يعطي من يراه ضعيفا بسبب عرقه أو لونه أو مذهبه أو منطقته الحق في سلب حقوقه؛ وليس هنالك أحد أفضل من أحد عندما يصبح التمييز آلية تعامل مقبولة في المجتمع. كما أن المرأة التي تميز ضد من ينتمون لعرق أو لون أو مذهب أو منطقة تشرعن وتعطي غيرها الحق في التمييز والتعنصر ضدها كامرأة؛ وقس على ذلك. إذاً فلا حق أبداً لمن يتعنصر ضد غيره، بأن يطالب غيره بعدم التعنصر ضده. وفي مثل هذه المجتمعات العنصرية، لا سلامة لأحد من التعنصر ضده، ولو لم يكن الآن، فغداً لناظره لقريب؛ حيث كل شيء يتسع فيها، إلا دائرة العنصرية فهي دوماً تضيق أكثر فأكثر يوماً بعد يوم.

وطوق النجاة في مجتمعات التمييز العنصري والطائفي والمناطقي والجنسي، هو رفض كل أنواع التمييز بكل أشكالها والوقوف ضدها وفضحها، والتصدي لها ومكافحتها. فعندما يقف مواطن مع مواطن آخر تم التمييز ضده؛ فهو في الأول والأخير يقف مع نفسه، حيث هو يقف ضد التمييز ويمنعه، حتى لا يصبح هو ضحيته القادمة. وعندما يجلس المواطن متفرجاً على التمييز ضد غيره ولا يدافع عنه، فلا يلومن إلا نفسه عندما يتم التمييز ضده في الغد ولا يجد من يدافع عنه. وتصدق عليه مقولة "لقد أكلت يوم أكل الثور الأبيض". إذاً فالمساواة هي طوق نجاة للجميع بدون تمييز؛ وعليه يجب أن تكون مطلب الجميع بدون استثناء.