هل يدخل السودان أعياد الميلاد بشهادة وفاة ومواعيد حرب وصولات صراع أم تتوافق مصادر النفوذ الدولي على وضعها على شاكلة مدرجات إقلاع نحو خارطة شرق أوسطية جرى الترويج لها منذ وقت مبكر؟
داخل السودان يعتمل أم خارجه؟ رغبة أهلية أم تراخي جيرانه؟
مَن مِن هؤلاء يمتلك الزمام ويرسم خطوط القحط والموت والنيل والنفط على خارطة السودان المستقبلية؟ أهو خدش يسم وجه وطن جرياً على طبيعة بعض قبائله أم علامة فارقة في تأريخ أمة التحمت وانقسمت وسادت ثم بادت أو تكاد؟ أهو حاضر حرص في وعينا القومي أم رسالة تحلل من شيء وكل شيء؟ كيف يتراءى السودان في ذاكرتنا وما موقعه من تراث الأمة وكيف يبدو اليوم أو بالأحرى بعد بضع فجائع أو ساعات من وطن للعروبة وسلة خبز في مرمى تطلعات الحماس الاشتراكي والقومي؟
أسئلة متناثرة على شفاه عام جديد لا نستطيع أن نتجاوز إلى كرنفالاته قلق الثوب الأبيض الفضفاض للسودان وقد..
سال من شعرها الذهب فتدلى وما انسكب
كلما عبثت به نسمة ماج واضطرب
تستدعيك السودان اليوم لضحك مقرف ومهرجانات شعبية ترفع سقف الوعود المؤمل إنجازها في حال تم انفصاله ومن بينها تطبيق الشريعة الإسلامية.. لهذا وعندما يعيد الشمال اكتشاف كينونته الجديدة فسيكون ذلك بسبب تراخي المؤسسات السودانية في أداء النوافل وغفلة الكنائس الجنوبية عن تعهد طقوسها على نحو مماثل.. التخلف كقاسم مشترك بين شمال السودان وجنوبه لا يوفر عقيدة ولا يدخر قيمة أثيرة في الوجدان الوطني إلا حشدها في خصوماته الاثنية والدينية.. مطامح السلطة ومطامعها، إرث التخلف ونزعاته، معضلات الاغتراب الداخلي التي تعكسها أعمال الطيب صالح ولا يقتصر أثرها على قصم الكيان الوطني ولكنها تمتد إلى مختلف التحالفات السياسية والعلاقات الأسرية.. ما من مكون استطاع الصمود في وجه العاصفة.. المصاهرات السياسية انقلبت عداءات وجماعات الإسلام السياسي غدت أكثر عددا في انقسامها ولكل قائد عصاه التي يلوح بها.. لكن الوطن وحده هو الذي ارتجف وأغمد الجميع خناجرهم في صدره..
سوء الإدارة وبذخ الاشتغال بالصراع على السلطة ومحاولة كل طرف فرض قناعاته في ظل تعدد المشارب والأعراق والأديان أذكى التمييز وهلهل الجبهة الداخلية مقوضا في النفوس معنى الوطن الواحد والشعور بأهمية الانتماء إلى واحدية أرض لا تتضمن الإنسان الذي تقوقع في انتماءات خاصة يطالب كل منها بحصة في الأرض - التي ضاقت بالجميع- ويبحث عن سند خارجي لهذه المشروعية..
اشتعل الخليج وتوجهت الأنظار إلى احتياطي القارة السوداء.. سقط القطبان فخسر اليسار حليفه ولم يستغن الحليف الآخر عن اليمين السوداني فحسب وإنما أصبح عدوه كجزء من الحرب على الإرهاب.
غابت الإيديولوجيا وهيمن الاقتصاد على قيام التحالفات وظهر مع هذا التحول عملاق جديد من الشرق يبحث عن مكان في القارة البكر ويقيم تحالفات على أساس اقتصادي محض بعيدا عن السياسة والإيديولوجيا ويمد يد الشراكة الاقتصادية بعروض مغرية..
يمين السودان الحاكم يجد في التنين الصيني بتاريخه البعيد عن صراعات المنطقة ومخلفات الحرب الباردة حليفا مثاليا نجح معه في تحقيق تنمية نسبية لم تتمكن في ظل الصراع الداخلي والتنافس الخارجي أن تغادر موروث الأزمات الطويل خصوصا أن اليمين السوداني لم يدعم تحالفه الجديد بتجاوز الخطاب الأصولي بالقدر الكافي وبقي في منطقة الوسط بين العداوة والصراع.. التنازلات التي قدمها في الجنوب والغرب لم تكن كافية في ظل خطاب أصولي واستماتة غربية في سبيل إخراج التنين الصيني من شرق القارة السوداء ورغبة في وضع طوق جديد على الدولة العربية الأكبر (مصر) التي لم تستطع اتفاقية السلام ولا الدعم الأمريكي أن تقنعها بالسماح لمياه النيل بالعبور إلى آسيا والأراضي المحتلة ولعل وجود دولة حليفة جديدة في حوض النيل سيزيد من صخب الأصوات في وجه مصر للمطالبة بإعادة توزيع مياه النيل وزيادة الضغط عليها بما يكفي لحصول إسرائيل على حصة من السلسبيل العذب..
كل ما في السودان شكل تهديدا للثوب الأبيض والقلب الأبيض لهذا البلد العربي بدءا بنعمة النيل وانتهاء بمصائب الجفاف وبين هذا وذلك قائمة طويلة تضم الاثنية والعشائرية والفقر والأصولية والتخلف وحتى ختان الإناث..
كل الدول العربية اليوم تعلن تضامنها مع وحدة السودان وتعد تقسيمه جريمة.. لقد تركناها تحتضر أمامنا ولم نحاول حتى أن نستفيد منها أو نحمي أنفسنا من ضرر انهيارها فضلا عن دعمها بيد أن التضامن معها اليوم لا يعدو ما كنا نسمعه عن سلة الخبز التي تكفي الوطن العربي من الغذاء فيما أبناؤها يموتون من الجوع ونحن نستورد القمح واللحوم من أقصى الأرض..
وفي مثل ظروف هذا البلد في هذا الوقت سيبدو الحديث عن النظام العربي ومؤسساته الإقليمية ضربا من الهلوسة إذ لم تعد قضية الوحدة العربية محل إثارة ولا الشعار القومي مطروحا ولكن هل يمكن أن نتوقع يقظة النظام العربي وإفادته من درس السودان في مرحلة الشطرين ولو على نطاق مواجهة مرحلة الشطر الثالث سيما وأن انفصال الجنوب يشكل دعوة مفتوحة لمعالجة مشكلة دارفور على نفس الشاكلة.