هناك مؤامرة، إن كنت ذكوريا تؤمن بتفوق الرجل، تحيكها الأيدي الناعمة وتكتب تفاصيلها لتطيح بالنظام الذكوري الذي ساد لقرون، وإن كنت من الطرف المحايد، فهي معاهدة غريزية واتفاقية دولية، تشارك فيها كل نساء العالم، بمختلف لغاتهن وعقائدهن، وموقعهن الجغرافي، لدفع الظلم الذي يلاقينه، أو يحسبن أنهن لاقينه ولا يزلن، على يد الذكور من بني آدم. وإن كنت نسويا، فتتبسم، أو تتبسمين رضا بسعي المرأة لنيل حقوقها الطبيعية، وسعيها لتتبوأ، بناء على قدراتها، مكانتها في المجتمع، التي حرمها منها الرجل ببنيته وعضلاته على مر العصور.

نحن كأفراد في عائلة أو حتى في المجتمع، ننزع إلى الاعتقاد بالاختلاف بين الجنسين، في كل شيء تقريبا، بناء على مفاهيم توارثناها وأضفنا إليها، وتراكمت أخيرا عندنا. ننظر إلى الفتاة ونظن أننا نعرف الكثير عن اهتماماتها، وعلى دراية بما ينتظرها في مستقبلها العلمي والوظيفي، ونعرف تماما الذي يناسبها.

ونحن الكبار، من يتخير للفتاة ألعابا تختلف عن تلك التي نختارها لأخيها، ولا نعرف السبب، سوى أنه درجنا على ذلك. وطلاء الغرف وألوانها وأثاثها، نتخيره بما نعتقد أنه يتناسب والجنس، بل وننكر على الفتاة أن تختار ألوانا خصصت للأولاد، وكذلك الأمر معكوسا. فهل أسهمنا في تأييد ودعم النظام الذكوري بسلوكياتنا؟ هذا ما يظنه المنصف من أنصار المرأة، وعلى الطرف من يعتقد أنها موروثة العصور الحجرية، يوم كانت العضلات هي أول المعايير وأكثرها اعتبارا. وواصلت بعد ذلك المجتمعات الذكورية في تعزيز هيمنتها وترسيخ أسطورة تفوق الرجل.

يقول الشاعر:

إن قومي تجمعوا وبقتلي تحدثوا لا أبالي بجمعهم، كل جمع مؤنث

ما كان يعرف هذا الشاعر أن فتاة عصر لاحق ستتقدم لوظيفة معيد بكلية العلوم بقسم الرياضيات في جامعة الملك عبدالعزيز، وقد حصدت العلامة الكاملة في كل مادة من مواد مرحلة البكالوريوس (ما شاء الله)، في الرياضيات والفيزياء، وفي اللغة العربية والثقافة الإسلامية وفي الكيمياء. هذا نموذج لفتاة اليوم التي لم تعد تنافس الذكور على المراتب الأولى في مقاعد الدراسة، بل تجاوزتهم بقدراتها، وجدها وإصرارها، وعن قريب ستنال مرادها. ومن يسأل أساتذة العلوم والصيدلة والطب، وفي كل التخصصات التي سمحت الظروف لفتاة اليوم، في مجتمعاتنا، أن تنافس فيها، يجد صورة للمرأة في العصر القادم وهي تتربع على كرسي الإدارة، وتقود المؤسسات، وتمسك بزمامها. حينها سيأخذ الرجل الدور القديم الذي خصصه لها في السابق، ويصبح هو السلعة التي تتاجر بها، والمواطن من الدرجة الثانية.

ومن منّ الله عليه، وجمع له الإناث والذكران، يعرف الفارق بين الجنسين في العزيمة، وفي الإصرار على التحصيل والتميز، ويرى الجد الذي تسلحت به الفتاة لخوض معترك الحياة. ويلمس على الجانب الآخر فتور العزيمة، واللامبالاة. أما إن كنت من المتابعين لنتائج الثانوية العامة، أو الممارسين التربويين المطلعين على نتائج الرياضيات والعلوم في الثانوية العامة في مدارس البنين والبنات، تدرك أن البنين في "ورطة". وليس الأمر، طبعا، بعمومه و"البركة في الشباب"، فهناك منهم حقا من أبدع.

لقد أثبت العلم الحديث أن وجه الشبه بين الفتيات كمجموعة والصبيان كمجموعة، أكثر بكثير من أوجه الخلاف، التي تكاد تنحصر في الصفات الجسدية، حتى العواطف وردود الفعل، لا يمكن التنبؤ بها بناء على معرفة الجنس. الفرق هنا أننا نرى الاختلافات التي تبرز بوضوح بينما لا نجد نفس الوضوح في موضوعات التشابه بين الجنسين.

واليوم، لم تعد المبررات النمطية، لإبعاد المرأة عن حلبة السباق واقعية، أو حتى مقبولة، ففتاة اليوم حطمت كل الأساطير التي تجعلها دائما في المقعد الخلفي. نحن الآن نتجاوز مرحلة التقسيم، ليست الرياضيات والهندسة والعلوم السياسية من شؤون الذكر وخصوصياته، ولا الآداب والعلوم الإنسانية هي نصيب الفتاة وحسب. في الماضي كنا نعتقد إذا رأينا فتاة تمارس ألعابا عنيفة ككرة السلة أو القدم، بأنها مختلة جينيا، والبعض لا يتوقع لها الزواج أو القدرة على الإنجاب، واليوم تركب الروديو، وتسابق في الفورميلا، وتلعب السلة والهوكي، وتقود الطائرات والغواصات، وتخوض الحروب وتتزوج وتنجب، مع كل ذلك، الأولاد. واليوم نراها تقود فرق المهندسين في البناء، وتترأس الأطباء الجراحين في غرفة العمليات، وتبني في نفس الوقت بيتا وعائلة.

يرى البعض أننا في انتظار اليوم الذي يخشى فيه والد الذكور على أبنائه من منافسة البنات؛ ونرى، سيخشى حينها والد الإناث ألا يجد لبناته الرجل الكفء والمناسب بمعايير العصر! فلنترك، لذا، يدا بيضاء عندهن ليوم الحاجة.

لعل الأمر ليس بهذه الصورة الحادة، "والبركة في الشباب"، بل وقد تجد من يرفض النظرية التي تربط بين تقدم الفتاة وتخلف الشاب، ويرجع الفارق في التحصيل إلى الاختلاف في بيئة المدارس عند الجنسين، وحجم الترفيه المتاح للطرفين، وللقيود التي يفرضها مجتمعنا على الفتاة، والبعض يرى أنه مكسب من جهة واحدة لا يقابله تراجع على الجانب الآخر؛ فقط تقدمت الفتاة وبقي الشاب مكانه. أما نحن، أساتذة الجامعات، فنلمس التراجع واضحا في مستوى التعلم عند الطلاب البنين، ونراه واقعا لا يمكن إنكاره، وظاهرة تفشت علينا أن نتداركها.