أضفى الحكم القضائي الذي صدر الأسبوع الماضي على الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، غيمة من الغضب أو بالأصح التعاطف مع صديق العرب.
لم تكن الصداقة بالطبع هي المدخل المنطقي للمرافعة عن المتهم، بل ارتكزت تلك في الدفاع عن تاريخ الفرنسي الديجولي العملاق ومواقفه العديدة في تعزيز مصالح فرنسا، مع العالم العربي خصوصا، وحماية الهيبة الفرنسية حين قال (لا) بقوة ووضوح للطلب الأميركي بدخول الجيش الفرنسي في الحرب ضد العراق ووقوفه الداعم والدائم للقضية الفلسطينية. ثم بعد هذه الأعمال والمواقف الوطنية العظيمة تُجرجر هيبة هذا الشيخ العجوز بوضعه الصحي المتردي في المحاكم من أجل انتحال (20) وظيفة وهمية، وهي عملية (تافهة) يقوم بها صغار الموظفين في البلاد العربية.. لأنها لا تليق بكبار الموظفين فكيف بكبار الرؤساء!
تجلّت موجة التعاطف مع الرئيس جاك شيراك عند العديد من أصدقائه ومحبيه العرب، وكان هذا واضحا بشدة في المقالة التي كتبتها رندة تقي الدين (الزميلة الكتابية في صحيفة الحياة).
لكن الصديق والمحبّ الآخر لشيراك الذي آلمته "مرمطة" وتقزيم الرئيس العملاق، هو إدريس الدريس، (بالمناسبة، إدريس هو شقيقي الأكبر سنا وقدرا، لكني سأُظهر أمام القراء أني لا أعرفه شخصيا حتى آخذ راحتي في التعاطف معه ومع شيراك).
الحكم القضائي على الرئيس الفرنسي الأسبق له إيجابيتان، الأولى: أنه جاء لتعزيز قيم الربيع العربي. الثانية: أنه أعاد إدريس الدريس للكتابة، بعد طول انقطاع كدنا نيأس من انقضائه. وهو اليوم يعود، ويعيدني أيضا معه للكتابة في الصحيفة العزيزة "الوطن" التي كانت آخر صحيفة انتظمت بالكتابة فيها، قبل انتقالي الآن إلى صحيفة الحياة. ظل الكاتب الساخر إدريس الدريس يمتع قراءه بمقالاته اللذيذة لسنوات طويلة، ثم انقطع لسنوات طويلة أيضا. لكنه عاد الآن للكتابة بحكم قضائي. عفوا.. إنه عاد للكتابة بفضل الحكم القضائي على شيراك وبفضل الحكمة المهنية لصحيفة الوطن. فشكرا لـ"الوطن" وشكرا لشيراك.. بل شكرا للقاضي الذي حكم على شيراك بالسجن، وعلى إدريس بالعودة إلى الكتابة!
عودة للمقالة الإدريسية وللقضية الشيراكية.
ينحت "الزميل" إدريس عنوان مقالته: (جاك يا شيراك ما تمنى) بتلاعب من ثنائية اسم "جاك شيراك" والمثل الشعبي: "جاك يا مهنا ما تمنى".
وعلى نفس المنوال، أصوغ عنوان مقالتي هذه من ثنائية اسم "جاك شيراك" والمثل الشعبي "جاك الذيب .. جاك وليده". ورغم مزاجية وعبثية العنوان، لكنه لا يخلو من غرض أردت أن أستخدم به هذا العنوان، لعله يخفف من غضب المتعاطفين مع شيراك.
تعيش الدوائر السياسية الفرنسية في السنوات الأخيرة حالة استثنائية من تصفية الحسابات بين الفرقاء، حتى داخل الحزب الواحد، تزداد هذه الظاهرة اشتعالا عند اقتراب موسم الانتخابات الفرنسية، التي هي على الأبواب الآن.
يزيد من تفاقم ظاهرة تصفية الحسابات ظاهرة أخرى أكثر عجبا، في الجمهورية الفرنسية الخامسة، هي حالة التداول العائلي بين القيادات السياسية، وكأن فرنسا باتت تحنّ إلى "وضعية" ما قبل الثورة الفرنسية!
إليكم هذه النماذج: جان ساركوزي عمدة نويي هو ابن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي كان من قبل هو عمدة هذه "الحارة" الفرنسية التي يرأسها ابنه الآن. مارين لوبان هي ابنة رئيس الحزب اليميني المتطرف "الكريه" جان ماري لوبان، وهي التي ورثت الآن رئاسة الحزب وورثت الكراهية بعد أبيها الذي شاخ. دومينيك دو فيلبان رئيس الحكومة الفرنسية السابق "الحبيب" والشاعر، الذي فرحنا الأسبوع الماضي بإعلان ترشحه لانتخابات الرئاسة القادمة، هو ابن السناتور الفرنسي الشهير إكزافييه دوفيلبان رئيس سابق للجنة الشؤون الخارجية والدفاع في مجلس الشيوخ الفرنسي، أما كلود شيراك فهي ابنة جاك شيراك، وقد كانت مسؤولة رئيسية في الأليزيه آنذاك، ومن غير المستبعد عودتها قريبا إلى الساحة السياسية.
هنا مربط الفرس، يا أحباب شيراك، فإذا تسنمت ابنته منصبا سياديا فستثأر لسمعة أبيها من الذين لطخوها .. على آخر الزمن. وسيصدق عندها التهديد الذي يحمله عنواني أعلاه: جاك شيراك .. جاك وليده. و"وليده" هنا هي ابنته استثناءا، لأن شيراك ليس له أولاد ذكور، وقد اشتهر شيراك دوما بأنه "ينتخي" بابنته، كما كان يفعل بعض العرب. ولا عجب من هذا التماثل فهو صديق العرب ... وصديق إدريس!