لم تدهشني شخصية من الشخصيات الفكرية والأدبية عبر تراثنا الإنساني العربي وحتى اليوم كما أدهشني أبو عثمان عمرو بن بحر، المشهور بالجاحظ، أشهر شخصيات العصر العباسي ممن ينتسبون لمدرسة المعتزلة وعلم الكلام، وقد وصل تأثيره الفكري أن عُرفت باسمه مدرسة "الجاحظية"، إنه بمثابة أنموذج أدبي وفكري لي منذ اكتشفتُه عبر التاريخ ودرستُه عبر محاضرات الأدب لطالباتي الجامعيات سابقا؛ بل أجد كثيرا ممن جاؤوا بعده من مفكرين وفلاسفة في الشرق والغرب أضافوا إلى ما أسس له خلال مذهبه العقلي الذي أخضع له كل شيء، حتى إني أجد ما يتم تداوله اليوم بما عُرف بنقد الأنساق الاجتماعية بين النقاد الذين تأثروا بتراث وترجمات الغرب رغم معرفتهم بتراثهم؛ أن الجاحظ سبق إليه منذ أكثر من ألف عام بوضع بذرته وهو يتناول أحوال الناس على تباين أجناسهم وألوانهم وأديانهم وأخبارهم؛ وإن اختلفت المصطلحات والطريقة.
بحق، هذا الرجل الذي عاش بين القرنين الثاني والثالث الهجري ولم يتزوج ومات عن عمر يناهز التسعين بعد أن قتلته الكتب التي أحبها وجعلته يعمل في دكاكين الوراقة "المكتبات" ليقرأ ما فيها بسبب فقره وعدم قدرته على شرائها، كلما أعود لمكتبتي بحثا عن شيء ما، وأرى كتابه "الحيوان" الضخم الذي لا أملّ قراءته، لأجد المتعة والرصد البحثي والنفس السلس والتنوع المعرفي، فتجده عالم لغة وبلاغة قرآنية وحديث واجتماع وطباع ومُفكرا عقلانيا، أتساءل: كيف استطاع تأليف هذا الكتاب في زمانه بجانب كتبه المقاربة للمئة؟ ليس لشيء! بل لأنه كان أول من وضع كتابا في العربية عن الحيوان، ولم يكتبه إلا راصدا بدقة ولسنوات طويلة حياة وطباع النمل والخنفساء والكلاب والقردة والخنازير والطيور والسباع وحتى البراغيث وكأنه عالم أحياء، وليس ذلك فقط، بل يستطرد بذكر حال وأيام النساء والرجال والصبيان والأمم وأصحاب الأديان والجن، مستشهدا بالقرآن والحديث والشعر والنثر؛ وكأنك أمام موسوعة ضخمة؛ ليأسرك بأسلوب طريف جاد ممتع، وفي ذات الوقت يجبرك على أن تفكر وتتأمل!! والمدهش أنه أخرج كتابه هذا بجانب أشهر أهم كتبه كالبيان والتبيين وهو مريض جدا؛ فكان نصف جسده مصابا بـ "النقرس"أحد الأمراض الروماتيزمية الموجعة، ونصفه الآخر "مفلوجا" أي الشلل النصفي؛ وليس أكثر صدقا من قول العالم اللغوي المبرد يصف مرضه قائلا"دخلتُ على الجاحظ آخر أيامه؛ فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه آلمه!"
لا أعلم، تساءلت حين وجدت أمامي كتابيه "الحيوان" و"البيان والتبيين": تُرى ما الذي كان سيؤلفه الجاحظ لو كان اليوم بيننا ويرى حال المسلمين وما وصل فيه بعضهم من تشدد وتنطع وغلو! وكيف سيرى حال العرب وما يعيشونه من تفكك وتقشر واستهلاك! وبماذا سيصف جرائم القاعدة الإرهابية في حق أهل الكتاب والمسلمين؟! ماذا سيحكي للأجيال القادمة عن زيجات المسيار والمتعة والمسفار وعضل النساء وفتاوى الكاشيرة والخميرة والباروكة والمكياج الإسلامي ومطالبة السعوديات بقيادة السيارة وحال المنقبات بقلب باريس؟! ما الذي كان سيكتبه؟! أترك الإجابة لخيالكم وسعة صدركم.