لا يجب بأي حال من الأحوال تفسير ظهور مدرسة فكرية جديدة تحمل نموذجا مغايرا للنموذج الكلاسيكي للسياسة الخارجية على أنه تعبير عن فشل السياسة الخارجية الحالية، فمما لا شك فيه أن المدرسة الحالية للسياسة الخارجية صنعت الكثير من النجاحات وبشهادة العديد من الدول بما فيها الدول العدو، ومن ثم فإن القراءة التي ترى عملية "تغير النموذج" هذه (Paradigm-Shift) على أنها تحول يهدف لتحقيق النجاح هي قراءة مبتسرة تختزل عمق الدلالات خلف هذا التحول الفكري.
فالفشل والنجاح هما معياران قياسيان يتحددان بتحدد الأهداف، والاختلاف حول مدى ما تحققه السياسة الخارجية من نجاح أو فشل لا يكون إلا بين أبناء المدرسة الواحدة ذلك أن الاختلاف يصبح حول مدى ما يحققه الفعل السياسي القائم من الأهداف التي ترسمها المنهجية الخاصة بهذه المدرسة أو تلك، وهذه الأهداف هي ما تمثل أسس النجاح نسبة لأبناء تلك المدرسة، وبالتالي فإن أي طرح لنموذج جديد للسياسة الخارحية لا يقوم على طرح فكرة فشل السياسة الحالية أو نجاحها على الإطلاق، وإنما يقوم على مبدأ طرح معايير جديدة لتعريف ما هو النجاح، أي أن كل نموذج للسياسة الخارجية إنما هو نموذج قائم بذاته يرسم خطوطه الخاصة بمعايير النجاح، وبالتالي إذا كانت معايير النجاح تنطلق من نماذج مختلفة فإن السياسة الخارجية الحالية تقع خارج نطاق التحليل أو حتى النقد الذي يمكن أن يقول بفشلها، وكل ما في الأمر هو بروز اختلاف فكري حول ما يعنيه النجاح دون أن يكون تعريف النجاح بالضرورة مرتبطا بتعريف الفشل.
وعلى سبيل المثال، قد يختلف أبناء "المدرسة الكلاسيكية" الحالية حول تفصيلات السياسة الخارجية المتبعة للمملكة فيما يخص العراق، ولكن تظل القاعدة الذهبية لعدم التدخل في شؤون الآخرين متبعة في كل الأحوال، وهو الأمر الذي أوضحه الأمير تركي الفيصل في حديثه في برنامج "واجه الصحافة" ردا على سؤال الأستاذ جمال خاشقجي، فهي بنظره إذا ما كانت قاعدة ذهبية فلا يجب بأي حال من الأحوال خرقها أو تقديم استثناءات لها. وهنا يبرز التغيير الجذري الذي ينادي به "المحافظون الجدد" الداعون للتخلي عن هذه القاعدة ـ على سبيل المثال ـ وتبني قواعد جديدة تعكس معاييرهم الخاصة بتعريف النجاح.
إن بروز مدرسة جديدة للسياسة الخارجية ليس تعبيرا عن فشل المدرسة الحالية، وإنما تعبير عن حالة التغير الفكري العام الذي يشهده المجتمع، فمعايير النجاح التي تحددها كل مدرسة تعتمد على تعريف أصحاب المدرسة لأنفسهم وكذلك الرؤية التي يحملونها حول دورهم، وبروز المدرسة الجديدة يعكس بعض التغيرات التي تشهدها الساحة الداخلية وأبرزها:
ـ فشل المشاريع العروبية والإسلاموية في مقابل ارتفاع الحس الوطني/ السعودي كصيغة نهائية لتعريف الذات.
ـ الانتقال من الأيدولوجيا "المثالية" (Idealism) إلى "الواقعية" (Realism)، فتركيا اليوم قد تكون شريكا يخدم مصلحة المملكة أفضل من كثير من الدول العربية.
ـ التغيرات الاقتصادية الداخلية والإيمان بأن الاقتصاد هو أساس القوة والمدخل السليم لأي نوع من الوحدة، فالخليج قادر على تحقيق خطوات متقدمة في هذا الشأن.
إذا كانت المدرسة الكلاسيكية ترى أن معايير النجاح تكمن ـ على سبيل المثال ـ في إبقاء العلاقات الخارجية متوازنة مع كل الأطراف وأن تدفع نحو استقرار ومحاولة إنجاح الوضع الإقليمي القائم (regional status-quo) فإن المدرسة الجديدة ـ على سبيل المثال ـ ترى أهمية أن تكون المملكة واعتمادا على قوتها صانعة للإجماع لا مجرد محركة له، وهو الأمر الذي لا يتأتى إلا باستخدام القوة وتحديد الجانب الذي تستند إليه، فالدفع بوحدة خليجية على حساب الوحدة العربية وإن كانت له انعكاسات سلبية على المدى القصير إلا أنها على المدى الطويل قادرة على تشكيل قوة جذب للبقية، وكذلك فإن إعادة صياغة العلاقة مع تركيا ـ على سبيل المثال ـ وإعطائها قدرا أكبر من المحورية ولو على حساب العلاقة مع دول عربية أخرى سيكون لها على المدى الطويل قدرة أكبر على الدفع باستقرار المنطقة العربية وإيجاد منظومة إقليمية قائدة. لعل هذا الجدال الفكري الذي بدأت إرهاصاته في البروز إلى السطح يكون ذا فائدة عامة، حيث إن النقاش هو ضمانة الحركة المستمرة اللازمة للتطور، فقد يدفع بروز منهج جديد إلى قيام المدرسة الكلاسيكية بمراجعة نفسها ولعلها تنتج مدرسة كلاسيكية جديدة (نيو ـ كلاسيكال) وهكذا دواليك، مما يضمن إخضاع السياسة الخارجية على مدى العقود القادمة للمراجعة المستمرة والنقد البناء الذي سيعود بالفائدة في المقام الأول على الدولة.