يتجنب الكثير من السعوديين اصطحاب عاملاتهم المنزليات معهم للغرب باعتبار أن الوضعية المعتادة التي تعمل فيها هذه العاملة عند الأسرة السعودية تعتبر وضعية غير قانونية في أكثر دول العالم، بل إنها تعتبر جريمة يعاقب عليها القانون عقوبات مشددة، وهذه بعض الأمثلة على هذه الوضعية.
أولا: العاملة المنزلية لدينا تتقاضى مرتبا مخالفا للحد الأدنى للأجور في كثير من دول العالم، فهذه الإنسانة التي تعمل بدوام كامل، وأحيانا كثيرة بدوام مفتوح وغير منتظم، تتقاضى أجرا لا يتناسب مع عملها. أي أن الأجر الذي تتقاضاه في السعودية مثلا وهو تقريبا 800 ريال هو أجر لا يتناسب مع طبيعة العمل والجهد الذي تقوم به.
ثانيا: يقوم الكفيل لدينا بتقييد حركة إنسانة ويمنعها من الخروج من المنزل لمدة قد تمتد لأكثر من سنتين. يقوم الكفيل أيضا بالتحكم في تواصل هذه الإنسانة مع الآخرين ويراقب اتصالاتها وربما تقوم ربّة المنزل بتفتيش مستلزماتها الخاصة بدون إذن منها.
ثالثا: يحتجز الكفيل أوراق العاملة الرسمية من جواز وإقامة وربما قايض العاملة أو العامل بهما على جزء من استحقاقاته المالية.
رابعا: أوضاع السكن للعاملات المنزليات غير صحية ولا مناسبة، فغالبا ما توضع إحداهن في مكان ملحق في المنزل يفتقد لوسائل الحياة الطبيعية من تكييف وتدفئة وأثاث طبيعي. بل إن من يشاهد قسم استقبال العاملات المنزليات في المطار لا يفرّق بينه وبين السجن ولن يستغرب استمرار هذه الحالة طول مدة عمل هذه الإنسانة.
قد يرى البعض أن الفروق بين الثقافات أمر طبيعي ولا يحق لثقافة ما أن تفرض مقاييسها على ثقافات أخرى، فالمحرّم في أميركا لا ينبغي بالضرورة أن يكون محرّما في السعودية والعكس صحيح. هذه الحجة في جزء منها صحيحة ولكنها تفارق الصحة في أجزائها الباقية. الفروق الثقافية لا تعني أنه لا يوجد مقاييس "إنسانية" يجب أن تتوفر في كل الظروف المعيشية للإنسان وعدم توفرها يجب أن يعامل على أنه جريمة ومضاد للقانون. هذه المقاييس الإنسانية يجب أن تراقب بشكل كبير، خصوصا في العلاقات التي لا تتساوى فيها قوة الطرفين، كعلاقة العامل وصاحب العمل. صاحب العمل غالبا في موقف أقوى ويحتاج لقوة مقابلة تمنعه من انتهاك حقوق العمال لديه. هذا الأمر يمكن التأكد منه بملاحظة أوضاع العمالة التي تعمل في شركات متوسطة وصغيرة أو مؤسسات أفراد. أوضاع العمالة هناك مروّعة: رواتب متأخرة، ابتزاز بالترحيل، توقيعهم مسبقا على استلام كل رواتبهم وهم لم يستلموها مما يفتح الباب على مصراعيه لتسيب العمالة والإقامات غير الرسمية والجرائم وكثير من المشاكل الاجتماعية.
المقاييس الإنسانية هنا تعني حالة من الكرامة الإنسانية وحفظ الحقوق الأساسية يجب أن تحفظ في كل الأحوال، ويجب أن تكون هي المرجعية الأساسية لكل تعاقد قانوني بين طرفين. بل إنها شروط سابقة على الشروط الخاصة بطبيعة العمل الدقيقة. شروط مثل: حفظ حرية العامل بكل أشكالها، حقه في الحركة، الحصول على مقابل مناسب ولا يخضع لظروف العامل السيئة التي قد تجعله يقبل بأي مبلغ، حق العاملة والعامل في سكن في ظروف بشرية أو يعطى الحق في السكن في مكان يختاره على أن يكون هذا السكن أيضا خاضعا لرقابة صحية واجتماعية لا تسمح لأي فرد بالسكن في مكان غير مناسب.
الضمير الأخلاقي يستوجب علينا استثارة الوعي العام والخاص بالحالة الإنسانية التي نعيش فيها. بمعنى أنه الضمير الذي يستثير الحساسية تجاه الظلم، خصوصا حين يصدر هذا الظلم عن الذات. المنظومة الأخلاقية الحقيقية هي المنظومة التي تستطيع أن تؤسس على أرض الواقع وعيا فكريا وقانونيا يراقب كل العلاقات في المجتمع ويحاسبها بناء على مبادئ الحرية والعدالة والمساواة. هذا الوعي يجب ألا يفرّق بين أطراف العلاقة بناء على أعراقهم ودياناتهم وأجناسهم بل يجب أن يفرّق بينهم من جهة القوة والضعف فينحاز للضعيف لا ليعطيه مالا يستحق بل ليحمي حقوقه من الاستغلال والابتزاز.
اليوم قد تعيش عاملة منزلية مع أسرة سعودية لمدة سنتين وأكثر وخلال هذه المدة لا تنفتح العلاقة بينهم إلى آفاق إنسانية طبيعية، بل تبقى محصورة في علاقة عملية جافة. قد تسافر هذه العاملة دون أن تشعر بالاندماج أو أنها جزء من العائلة.
هناك حاجز كبير، فكري وثقافي وقانوني، يحجب هذه الإنسانة عن انخراطها في تجربة إنسانية حقيقية مع بشر آخرين يشاركونها ذات المكان. كلنا اليوم متورطون في حالة فكرية وثقافية وقانونية تجعل من علاقتنا مع عدد كبير من البشر القادمين للعمل معنا علاقة لا إنسانية تكسر كثيرا من القيم الأساسية في الحياة.
وبالإضافة إلى وضعيتها تلك فهي تزيد من توحشنا وقبولنا للظلم حتى على أنفسنا. هذه الوضعية تقدم درسا يوميا لأبنائنا وبناتنا يعلمهم أن لا أخلاق في الحياة وأن المبادئ التي نسمع بها من عدالة ورحمة ما هي إلا شعارات نرفعها لمنافعنا الخاصة فقط، بل إننا أصبحنا نعجز عن الوعي بالظلم حتى ولو وقع علينا، بمعنى أننا ألفنا المأساة، اعتدناها ، فقدنا الحساسية تجاه بشريتنا وإنسانيتنا، أرواحنا الطيبة مخنوقة في هذا الفضاء المشوّه، ومن المهم اليوم العمل على تشكيل وعي أخلاقي يخرجنا من دعايتنا اليومية بأننا أفضل الأمم أخلاقيا إلى نظرة تحاول أن تفحص الواقع وتراقبه وتشكل وعيا مضادا تجاهه. ولا ننسى، كما قال حكيم قديم، أن المأساة الحقيقية هي أن نألف المأساة.