جدة: خالد المحاميد
حين رحل عبد الرؤوف خليل عن الدنيا، ظل ما أنجزه شاهداً على ولعه بالتاريخ، وما أبقاه من آثار وبقي حتى أيامه الأخيرة يوصي بالحفاظ عليها. ولعلمه أن قيم الناس لا تحتمل أن ترى ثروة هائلة تنفق على استحضار التاريخ وصيانة موروثاته، قرر وقف 6 أبنية كبيرة يذهب ريعها للإنفاق على 3 متاحف أنشأها في مدينة جدة بجهده وأمواله الخاصة.
وقبل أن ينتقل إلى رحمة الله كان عبد الرؤوف خليل يخطط لإقامة متحف خاص بالأعمال الفنية التي يملكها ومنها لوحات لفنانين عالميين وفنانين عرب وسعوديين، لكن الأجل وافاه قبل أن يستكمل مشروعه النبيل. ترك لنا عبد الرؤوف خليل 3 متاحف أولها متحف الأدوات المنزلية الذي أقامه في منزل العائلة في حي الحمراء بالقرب من مركز جمجوم، ومتحف عبد الرؤوف خليل في حي الأندلس، ثم مدينة الطيبات للعلوم والمعرفة، وهي تحفة معمارية وأحد أهم المتاحف في المنطقة العربية، أقامها عبد الرؤوف خليل لتطل على شارع الستين بالقرب من دوار الفلك.
تقع مدينة الطيبات على مساحة 10 آلاف متر مربع وتضم 12 مبنى مختلفاً من حيث الحجم. وحرص عبد الرؤوف خليل على أن تكون منسجمة في طابعها العام، فقد بنيت من مادتين هما الحجر البحري والخشب الصلب.
ولم يفصح لأحد أبدا عن تكاليف بنائها، ورغم أن الكثيرين دخلوا المدينة وقضوا فيها وقتاً طويلاً إلا أن زيارتها لا تكفيها بضع ساعات أو يوم واحد حيث لا يعلم أحد على وجه التحديد عدد القطع التي تحتويها، وحين كنت اسأل الراحل قبل وفاته عن معلومات مثل هذه، يقول لي: علمها عند الله.
ومثلما لم يفصح عن قيمة محتوياتها، كذلك لم يفصح عن كل أسرارها.. ففي هذه المدينة التي بناها مستوحياً مباني جدة القديمة وأحياءها العريقة إلى حد تسمية حارات مدينة الطيبات بأسماء حارات جدة نفسها، ويمكن لمن يريد أن يعرف جدة التاريخية كيف كانت أن يزور مدينة الطيبات، فقد لخصها عبد الرؤوف خليل في تلك المدينة.
أحضر خليل فنانين وصناع مهرة من مختلف أنحاء العالم منذ عام 1987، وقام بنفسه بتعليمهم كيفية تعشيق الخشب في المشربيات الحجازية الشهيرة. ويذكر ابنه البكر خالد الذي يشرف الآن على تركة والده، أنه كان يأخذ الصناعيين على قلب جدة التاريخية ويريهم كيف صنع الجداويون نوافذ منازلهم، وكيف نسجوا بخشب السنديان مشربياتها، وكان يضطر إلى تفكيك بعضها أمامهم ليتعلموا كيفية نحتها وزخرفتها وتركيبها. ولما انتهى بناء المدينة بعد 9 سنوات من العمل عام 1996 كانت عبارة عن جدة صغيرة بحاراتها وساحاتها ومشربياتها، حيث يمكنك أن ترى منزل آل الفارسي، وزينل، وغيرهم من الأسر العريقة. تضم المباني الإثنى عشر التي تحتضنها المدينة عددا من المراكز فهناك المسجد، ومبرة الطيبات الخيرية، ومركز علوم التراث ومركز المعلومات، وجامعة الطيبات المفتوحة، ومراكز أخرى للتعليم. أما المبنى المخصص للآثار والتراث، فيضم آلاف القطع الأثرية النادرة التي لا تقدر بثمن بسبب ندرتها وقدمها، وقسمت المباني التي تضم المتحف وهي من 4 أدوار إلى أقسام، حيث يضم الدور الأول خليطا من الآثار والسجاد والمحفورات الخشبية والنحاسية وهو القسم العام. أما الدور الثاني فخصصه للآثار والتراث الإسلامي، وفي الدور الثالث ستجد كل ما هو سعودي من ملابس وتحف ومنسوجات وأوان. وحين تصل إلى الدور الرابع سيطل عليك العالم الحديث بآلاته وأجهزته وشاشاته. ويحتاج الزائر إلى زيارتين على الأقل لمشاهدة جميع محتويات المتحف والوقوف أمام تحفه وآثاره النادرة.
وقد قسمت الأدوار الأربعة إلى 18 جناحاً تغطي كافة الحضارات الإنسانية منذ أن اكتشف الإنسان البدائي النار وحتى عصر الفضاء.
وكان عبد الرؤوف خليل هو وحده الذي يعرف من أين جاءت هذه القطعة أو تلك، وماذا دفع فيها من أموال، وكيف حصل عليها.. مثل هذه المعلومات حين كنت أسأل عنها كان خليل يشير إلى رأسه ويقول "إنها مخزنة هنا". وطالما حدثته عن الخوف من فقدان المعلومات عن هذه الكنوز. وكان يرفض أن يشاركه أحد هذه المعلومات. وقد غضب بشدة يوم كتبنا في "الوطن" أن الفوضى تعم المتحف وأن ما فيه من كنوز ليست ملكا لعبد الرؤوف خليل وحده وإنما هي ملك للإنسانية، وظل على قناعته حتى حدثت كارثة احتراق متحف عبد الرؤوف خليل الذي كان بحق نجمة مدينة جدة، وأهم مكان فيها على الإطلاق. يقول ابنه خالد عبد الرؤوف خليل إن والده قبل مرضه بعامين اهتم بتوثيق الآثار الموجودة في المتاحف الثلاثة، واستعان بعالم الآثار السوري الدكتور نصر الدين فرفور الذي يقوم بتدريس الحضارة والآثار الإسلامية بالجامعات البريطانية، وبالفعل حضر إلى جدة، وعاين القطع الأثرية وكتب معلومات عنها. مع ذلك تبقى مدينة الطيبات بحاجة إلى دعاية كافية، فهناك مئات الآلاف من البشر في جدة لا يعرفون عنها شيئاً عنها، ناهيك عن ملايين الناس في المملكة، وقلة هم الذي يزورون المدينة التي تضم في جنباتها نوادر ما خلفته البشرية من آثار.