بدأت حكايتنا مع الانفتاح - نحن العرب - مع سقوط الدولة الأندلسية، الحدث الذي يمثل انعطافة خطيرة في مسار العرب الحضاري، معه بدأت قصتنا مع الانفتاح على الآخر، وصرنا نلبس لكل حال لبسوها، لبسنا الطربوش التركي وحين أدركنا أنه ليس الطريق الصائب نحو مواكبة العصر استبدلناه دون تردد بالقبعة الإفرنجية، وهذا التنقل بين الأزياء هو شكل من أشكال الانفتاح على الآخر.
قد يتساءل القارئ، لماذا حددنا الحقبة الأندلسية على وجه التحديد بصفتها نقطة انطلاق نحو الانفتاح العربي العظيم وغير المشروط على الآخر؟، قصة واحدة تفسر هذا القول، وهي مقولة الصاحب ابن عباد الشهيرة عندما قرأ كتاب العقد الفريد لابن عبدربه الأندلسي «هذه بضاعتنا ردت إلينا»، فقد سعى الصاحب بن عباد في طلب الكتاب لأنه كان يتوق لمعرفة ثقافة وأخبار أهل الأندلس، وابن عبدربه الأندلسي كاتب أندلسي شهير عاش حياته بوسط حدائق الأندلس وطبيعتها الخلابة، ولكن كتاب العقد الفريد لم يخرج عن سياق الثقافة العربية الموجودة في العراق والشام والجزيرة العربية، فاللغة كانت لغة العرب الأقحاح والأدب هو أدبهم، وكل ما يحويه الكتاب من أخبار وطرائف وملح لم يخرج عن ثقافة العرب في المشرق، وهذا يفسر مقولة الصاحب بن عباد: «هذه بضاعتنا ردت إلينا».
كان عرب الأندلس مع أنهم يعيشون في قارة بعيدة يفصلها عن المشرق بحار ومحيطات، ويعيشون في بيئة جغرافية مختلفة تمام الاختلاف عن تلك البيئة التي عاشها الجاحظ وابن قتيبة والمبرد وسيبويه والخليل، ولكنهم كانوا يرتبطون بالمشرق بعلاقة أقرب للتبعية الثقافية، فلا زالت حبال الثقافة العربية الأصيلة تربطهم من النواحي الأدبية واللغوية والعلمية وحتى الدينية، لذلك كان سقوط الأندلس هو بداية تحرر العرب من هذه الحبال ودخولهم عالم الانفتاح غير المشروط على الآخر.
بدأت قصتنا مع الانفتاح بحملات التتريك التي أدخلت على الثقافة العربية كثيراً من المصطلحات التركية والطقوس الدينية الغريبة، وبعد سقوط الدولة العثمانية دخلنا مرحلة جديدة من الانفتاح خضناها مع المستعمر الفرنسي والإنجليزي والإيطالي، حتى أصبح نصف العرب يتكلم بلسان نصفه عربي ونصفه الآخر فرنسي، وصارت الجامعات العربية تدرس طلابها بلغات أجنبية، ولا أحد ينكر أن تدريسنا للعلوم في جامعاتنا ومدارسنا بلغات أجنبية يمثل أقصى درجات الانفتاح على الآخر، بل إننا تمادينا في الانفتاح وأصبحنا ندرس اللغة الإنجليزية والفرنسية لطلاب المدارس الذين لم يتقنوا لغتهم الأم بعد.
من كان يعتقد أننا منغلقون فهو لا يفقه شيئا، نحن - وبكل فخر - منفتحون أكثر مما ينبغي، فالجامعات الأجنبية، الروسية والفرنسية والبريطانية والأميركية والكندية اكتظت بالطلاب العرب من بداية القرن العشرين حتى وقتنا الحالي، فأصبح لدينا فائض في الكفاءات وطفرة في الإمكانيات، فصرنا نصدر الكفاءات للخارج، حتى لا يجد الطالب الجامعي نفسه يعمل حارس عمارة أو بائع فول أو سائق تاكسي.
نحن نأكل طعامنا من المطاعم الأميركية ونلبس على الطريقة الإنجليزية ونتعطر بالعطورات الفرنسية، ونصمم غرف نومنا على الطراز الأوروبي، وكلنا نعرف أن غرف النوم هي أشد الأماكن خصوصية في حياة المواطن العربي، وهذا إثبات قطعي بأننا منفتحون على الآخر دون قيد أو شرط.
وشركات القطاع الخاص قبل أن تعرف اسمك ومؤهلاتك وإمكانياتك، فإنها يجب أن تتأكد بأنك تجيد اللغة الأجنبية، فإجادة التحدث باللغة الإنجليزية هو الشرط الأول من شروط القبول في وظائف القطاع الخاص، وحتى مطاعم المندي والفول والفلافل والكبة والتبولة تشترط إجادة اللغة الإنجليزية.
نحن العرب أكثر شعوب العالم تلبية لمتطلبات سوق العمل، حتى أننا نهيئ أطفالنا الصغار لسوق العمل منذ نعومة أظفارهم، وهذا شكل من أشكال الانفتاح على الآخر الذي لن تجده في أي بقعة من بقاع العالم.
أستطيع القول إن العرب المعاصرين، هم مؤسسو علم الانفتاح على الآخر؟ فهم لا يجيدون فن التلصص المعرفي، ولا يجيدون مهارة الأخذ من الآخر دون أن يشعر هذا الآخر، إما الانفتاح الكلي أو الانغلاق الكلي، فهم لا يجيدون الحلول الوسط، والقرآن الكريم ومع كونه أقدس مقدساتنا ولكننا لم نخجل أن نطرحه على طاولة النظريات الغربية، وندرسه دراسة علمية موضوعية، فتارة ندرسه دراسة بنيوية وتارة ندرسه دراسة تفكيكية، واليوم ندرسه دراسة تداولية، فالانفتاح على الآخر هو غايتنا وهدفنا الأسمى.