الاحتجاجات الراهنة في الجزائر يتابعها الجميع وكل محب مشفق واضع يده على قلبه، فالوضع حرج لأبعد مما يتصور كثيرون ممن تجرؤوا على الكلام في أزمة هذا البلد، وهم لا يعلمون خطورة الكلمة في وضع معقد وحرج كالوضع الذي تقف فيه الجزائر اليوم، سواء أكان ما يقال مؤيدا للاحتجاجات أم رافضا لها، فقد وقف الجزائريون على ما يشبه حرف الجدار، والمضي على هذا الحرف يقتضي منهم التؤدة والهدوء والسكينة، كما يقتضي ممن حولهم الصمت وتركهم لما يهديهم الله إليه ويُثَبِّتهم عليه، اللهم إلا إن كان لديه المكانة التي تُخَوِّله للدخول في مبادرة ينتهي بها المأزق وتعود بالنفع على الأمة من جمع لكلمتها وحفظ لمكانتها وصيانة لحقوقها وحقن لدمائها وأعراضها، فمن رزقه الله تعالى مثل هذه المكانة من ذوي الرتب العاليات أو الدول أو الهيئات والمنظمات، فواجب عليه أن يفعل ما فيه خير للأمة كما قال تعالى ?لا خَيرَ في كَثيرٍ مِن نَجواهُم إِلّا مَن أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعروفٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ النّاسِ وَمَن يَفعَل ذلِكَ ابتِغاءَ مَرضاتِ اللَّهِ فَسَوفَ نُؤتيهِ أَجرًا عَظيمًا? [النساء: 114]. أما الذين يطلقون الكلام جهلا منهم بعواقب الأمور أو تمدحا أمام قرائهم ومستمعيهم فعليهم تذكر قول الله تعالى ?ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا? [الإسراء: 36]، وقد رأينا الجَنَى المحرق لتدخل أمثالهم في الشأن الجزائري أوائل العشر الثانية من هذا القرن الهجري، والجَنَى المحرق لتدخلهم في بلاد الخريف العربي.
أما الذي أريد الوقوف عنده هنا فهو درس نبهتني إليه بعض تلك اللافتات التي يرفعها المحتجون من الشباب الجزائري، والتي تلخص مطالب الشباب في احتجاجاتهم، ذاك أنها تدعو إلى تطبيق الدستور، وإلى الالتزام بالديمقراطية، ولم أر فيها شعارا يدعو لتطبيق الشريعة أو إلى إسلامية الدولة، وحين أعود بالذاكرة إلى عام 1412 وما قبله وما بعده أجد أن تظاهرات ذلك الزمان التي بدأت بمطالبة الشاذلي بن جديد بالتنحي وانتهت بمطالبة الجيش باستكمال الانتخابات، ثم أفضت إلى حرب أهلية وفواجع حصدت عشرات الآلاف من الأرواح، أقول: إن مظاهرات ذلك التاريخ كانت -ربما كلها- تطالب بتطبيق الشريعة وإلغاء الدستور العلماني والعودة إلى دولة الإسلام، بل منها ومن بعض تصريحات القادة الإسلاميين ما يَعِد بدولة إسلامية يتعلم منها الشرق والغرب، ومنها ما يَعِد بدولة إسلامية تعيد للمسلمين عزتهم الأولى وتأخذ لهم حقوقهم ممن اعتدى عليهم، بل أذكر أحد قادتهم، وقد قُتِل في تلك الأحداث، رحمه الله، قال ما معناه: سنُقَدِّم إسلاما لا كإسلام السعودية!.
هذه الشعارات والتصريحات الدينية لم تَغِب هي وحسب في التظاهرات الأخيرة، بل غاب حتى القادة الإسلاميون، سواء منهم من كانوا فاعلين في تلك الأحداث أم من الإسلاميين الشباب الجدد، كلهم غائبون عن التصريح ورفع الشعارات في هذه الأحداث الأخيرة، مع أن بعضهم لم يغيبوا عن التصريح ضد المملكة واتهامها في دينها وفي سياستها، ولم يستحوا من المشاركة في حملة تأليب الرأي العام الجزائري والإسلامي ضدها، لكنهم حين حلَّت الفتنة في دارهم صمتوا صمت الموتى، ولم يشاركوا بأصواتهم وشعاراتهم، والسؤال الذي يعنيني هنا هو: ما الأمر، وما القصة؟.
لا بد أن نعرف ما القصة التي جعلت الشارع الجزائري يتخلى عن المطالبة بتطبيق الشريعة والدولة الإسلامية إلى المطالبة بالدستور والجمهورية والديمقراطية، إنه انقلاب كبير في فكر شعبي كان مسيطرا على الذهنية الجزائرية في حينه، حتى إنها أعطت جبهة الإنقاذ الإسلامية 81% من الأصوات، وهي نتيجة غير مسبوقة عالميا، كانت ثمرة جهد مشكور في العمل الدعوي أدى إلى انتشار التدين والثقة الكبرى بالمتدينين إلى غير ذلك من المكاسب العظيمة المحمودة، وقد بلغ التغير اليوم مداه لدرجة أننا لا نجد لتلك المطالبات مكانا في الأحداث الراهنة.
بالطبع الشعب الجزائري لم يفقد تدينه ولله الحمد، ولن يفقده إن شاء الله، وهذا لا يتناقض مع ما نلحظه في جميع العالم الإسلامي من تراجع في قوة الالتزام الديني، وهنا موضع دروس مهمة، أحدها أن عدم تأييد الشعوب الحركات والأحزاب الإسلامية لا يعني التخلي عن الدين، وهي حقيقة يحاول الحركيون الإسلاميون تكريس ضدها ليُشِيعوا وهماً حاصله أن من لا يؤيدهم فهو لا يؤيد الحكم بالإسلام، بل ويقف ضده، وهو مفهوم مبني على المغالطة السياسية التي تهدف إلى إسقاط الخصوم وحسب، لأن الحقيقة أن عدم تأييد الأحزاب الإسلامية وإن كان يعني عند الليبراليين والعلمانيين واليساريين عدم القناعة بالإسلام كحل أصيل سياسيا واقتصاديا، إلا أنه لا يعني ذلك عند أكثرية الشعوب والنخب المسلمة الذين يؤمنون بالإسلام دينا كاملا، لكنهم لا يثقون بقدرة تلك الأحزاب أو الحركات على تمثيل الإسلام أو القيام بأعباء الحكم الإسلامي، ولذلك يرفضونها هي ولا يعنون برفضها رفض الإسلام.
لكن وصول انحسار ثقة الشعوب بالإسلاميين مرحلة تجعلهم لا يرفعون أي مطالبة دينية في مظاهرات عامة، وتجعل السياسيين الإسلاميين أنفسهم يختفون في مثل هذا الموسم السياسي، كل ذلك يدل على أن محصلة التجارب السابقة كانت تراجعا كبيرا للوراء إلى ما قبل التجربة، مما يعني أن شعار فقه الواقع أو فقه المرحلة الذي كان سائدا عند الحركات الإسلامية أوائل القرن الهجري لم يكن سوى شعار لا يعني أدنى فهم للواقع أو إدراك للمرحلة، مع أنهم كانوا يرفعونه بقوة وصلف إذ ذاك، ويُطالبون به من يخالفهم في توجهاتهم نحو ذلك الحراك، وعلى رأسهم السلفيون الذين لم ينغمسوا في النشاط الحركي، فقد كشفت أحداث السنين أنهم -أي الحركيين الإسلاميين- كانوا ينظرون للواقع بمنظار مقلوب يصغر الأمور العظيمة ويجعل الدقائق تتلاشى عن رؤية العين بالكلية، وكان لديهم من الثقة العمياء بأنفسهم ما يجعلهم يصرون على أن الصواب هو إمساك المنظار مقلوبا.
ولست أعني بالنقد هنا ما كان من مشاركة المنتمين للتوجه المتدين في الشأن السياسي كغيرهم من مكونات الشعب حتى في الدول التي تعمل بنظام ديمقراطي علماني تعددي، بل أعني الذين حين يُشاركون يتعالون على الواقع ولا يُقَدِّرُون المآلات ولا يحسنون مواضع الوقوف في وجه العاصفة ومواضع الانحناء لها، هؤلاء هم من أعني بأصحاب المنظار المقلوب.
والمستعصي على الفهم أن تلك الثقة العمياء وذلك المنظار المقلوب ظل دأب معظم الحركيين الإسلاميين في كل مكان حتى اليوم، ولو أن الخسارة وقعت على أحزابهم وحدها لهان الأمر، لكن المصيبة أنها تسببت في خسائر كبرى للأوطان، ففضلا عن الخسائر المادية والبشرية التي تكاد الجزائر تكون فرغت من تضميد جراحها منها الآن، وما زالت تعيشها بلاد أخرى، أقول فضلا عن ذلك، فهناك خسارة انحسار الالتزام الديني الذي كان مكسبا عظيما للأمة الإسلامية، وكان الفقه وفهم الواقع يقضيان بدعمه وعدم التشويش عليه حتى يزداد انتشاره ويصبح طابعا للأمة لا يسع المُشرعين والمنظمين في دولهم إلا الاستجابة له، إما إيمانا بمطالبه أو يقينا بأن المصلحة متحتمة في مُجَاراته، وهذا ما كان ينادي به العلماء الكبار من هيئة كبار العلماء في المملكة، لكن أصحاب التوجه الحركي آثروا الاقتيات على واقع التدين ذاك فأظهروا معاداة السلطات اغترارا بعددهم، وفهما خاطئا لحجم قُوَّتهم، الأمر الذي أدى إلى أن التفتت إليهم السلطات في بعض البلدان التي يعلم الجميع طابعها الغاشم المستبد المستحوذ على القوة، وحرمتهم من حرية الدعوة التي كانت متاحة لهم، ولم تكتف بذلك، بل انصرفت إلى الدعم الثقافي والإعلامي لحرب مصادر التلقي والمنهج الاستنباطي والفتوى الشرعية، حيث انصرف كثير من الجهد الإعلامي إلى تمييع الدين والتهوين من المحرمات، والتضييق على الفتاوى المعتمِدة على النص والعمل على تشويهها، ووصم أصحابها بالتشدد ونسبتهم إلى العنف والتكفير.
المؤسف أن يصل الأمر من السوء لدرجة يجد الحركيون أنفسهم في وضع يقتنعون فيه أن الحل في أن يختفوا عن الساحة ويبتعدوا عن المشهد، وهو حل قد نؤيدهم عليه اليوم في الجزائر إذا كانوا يعلمون أن ظهورهم لن يزيد الإبَّالة إلا ضغثا، والمؤسف أكثر أن نجد الحركات الإسلامية تشعر أنها كانت مخطئة في تبني المطالبة بتطبيق الشريعة، وهو أمر لا نقرها عليه مطلقا.
الذي أتمناه اليوم أن يتفق كل المنتمين للتوجه الإسلامي والدعوي على استثمار ما بقي من المتاح في العودة إلى الدعوة وتصحيح ما سبق من أخطاء، والعودة بالشعوب الإسلامية ومسلمي الأقليات إلى التدين والثقة بالمتدينين والعلماء، فالذي خسرته الأمة في هذا الجانب هو أهم ما ينبغي توجيه العناية إليه، وما زال المتاح من وسائل الوصول لذلك كبيرا.