تعد التقنية ومعطيات التكنولوجيا الحديثة أكبر المدخلات المؤثرة على الحياة بشكل عام، وعلى التحصيل الدراسي لطلاب المدارس والجامعات بشكل خاص، ونظرا لاجتياحات التقنية لمجريات الحياة بكل تفاصيلها، وشغلها لأكبر مساحة من الوقت في حياة الإنسان، ومزاحمتها له في محيط العمل والأسرة، وملازمتها لتفاصيل حياته الخاصة والعامة، حيث ألقت وسائل التواصل بظلالها على كثير من السلوك والقيم، وشكلت أكبر مؤثر في صناعة كل التحولات، وأدّت إلى بناء هياكل جديدة من القيم الاجتماعية، والنظم السلوكية، وتلقت مؤسسات التعليم ودور التربية أكواما من النقد لعجزها أمام الانجراف الهائل خلف ما تعجّ به وسائل التواصل من سلوكيات وممارسات منافية للعادات والقيم الدينية والاجتماعية أحيانا، وما وصلت إليه من تأثير واضح على سلوك الطلاب أكثر من تأثير تلك المؤسسات، رغم جهودها وسعيها الحثيث لاحتواء ذلك الأثر قدر المستطاع، وما خلّفه ذلك الأثر على المستوى التحصيلي من ضعف ملحوظ كشفته النتائج والمشاركات في الاختبارات النوعية التي تنفذها المؤسسات التعليمية المحلية والدولية.
وفي هذا الصدد أجري كثير من الدراسات البحثية منذ وقت مبكر لظهور وسائل التواصل، وكلّها تؤكد على الأثر المباشر لتلك الوسائل على المستوى التحصيلي لطلاب المدارس والجامعات على مستوى العالم والوطن العربي خصوصا، فالساعات الطويلة التي يقضيها الأبناء على مواقع التواصل الاجتماعي لها أثر سلبي على تحصيلهم الدراسي، ويترتب عليه مجموعة من المشكلات التربوية مثل: النوم أثناء الدروس والمذاكرة، وضعف التركيز، وتشتت الذهن، وضعف القدرة على الاستذكار، والتأخر الدراسي الدائم، وغيرها من الآثار التي تؤثر بشكل مباشر على التحصيل الدراسي.
ومع ازدياد الانفتاح يوماً بعد يوم، يزيد أثر وسائل التواصل الاجتماعي وتترسخ في الوجود البشري كظاهرة وجدت لتبقى، وليست عابرة لتزول، وبالتالي فإن طلابنا اليوم بحاجة إلى أن يتعلموا أساسيات التفاعل مع وسائل التواصل، وكيف يمكنها التأثير على مستقبلهم إيجابا وسلبا؟.
وفي ظل النمو المتزايد للتطبيقات والنظم الإلكترونية التي أصبحت قنوات رئيسة للحصول على الخدمات والتسهيلات، فإن التعامل مع هذه المنظومات أصبح أحد متطلبات الحياة، وضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، فلا يمكن معالجة الأمر بالحرمان أو المنع أو حتى الرقابة المستمرة، ولكنه من الضروري بناء قاعدة من الوعي الفاعل في تقبل هذه الظاهرة والتعامل الأمثل معها، ومحاولة التغلب على مؤثراتها السلبية بتفعيل الجوانب الإيجابية، ورفع مستوى الإدراك للمخاطر والتهديدات التي تشكلها تلك الوسائل، والتي قد تكون جزءا من أهدافها، بسعي الدول ذات الهيمنة من خلالها إلى إغراق العالم في دوامة الضياع وإشغالهم، من أجل التمكن والسيطرة، من خلال بث الشائعات، وتوجيه بعض القوى والمنظمات، وتوفير منصات قادرة على المراقبة والاختراق، وانتقاء المعلومات وتوظيفها لمصالح الهيمنة وتعزيز السيطرة.
وبالعودة إلى أثر تلك الوسائل على مستوى التحصيل الدراسي والأكاديمي فإنه يلزم مؤسساتنا التعليمية إدراج محتوى ملائم ضمن مقرراتها الدراسية يشمل جوانب ومجالات تفعيل وسائل التواصل، وطرق التعامل الأمثل معها لخدمة النواحي التعليمية والتربوية، وتطوير ذلك المحتوى بتطور تلك الوسائل، وكسر حاجز الخوف بالتدريب والممارسة أمام أنظار المعلمين وأولياء الأمور، ومحاولة إدراج منصات التواصل المختلفة ضمن خطط التبادل المعرفي والبحث، وملء مساحات الوقت التي يقضيها الطلاب والطالبات بين تلك المنصات في أمور قد تكون مخلة بالآداب ومؤثرة على القيم ومدمرة للسلوك وموفرة لجو من الانحراف الفكري والسلوكي، من خلال ملئها بتفاعلات المعرفة وتكليفات البحث.
وعندما نراجع بعض مفردات المقررات الدراسية التي تنمي القيم السلوكية وتعنى بالتوجيه الأخلاقي، فأغلبها يتجاهل دور وسائل التواصل وقنواته المختلفة، ولا زالت مناهجنا غير قادرة على مواكبة هذا الطغيان المستبد في هذا المجال بشكل لافت.
إن أكبر سطوة على الفكر والقيم والتوجهات - في العصر الحاضر- تملكها وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أصبحت قادرة على أن تصوغ متلقيا خاضعا لسطوتها، وتشكل أعمق حفر في منظومات الفكر والثقافة، كما تملك القدرة على بناء أعظم المنظومات كقدرتها على تفكيكها أيضا.
فإذا أرادت مؤسساتنا التعليمية أن تحقق منجزا تحصيليا مميزا فلابد أن تدرك أثر أكبر المدخلات على فكر المتعلم، وكيف يمكن توظيفه لمصلحة أهدافها؟ وأن تعي أن الوقت الذي يقضيه المتعلم مع هاتفه الذكي متنقلاً بين تلك المنصات المختلفة أكثر بكثير مما يقضيه أمام كتاب مدرسي، وقد يكون حتى أثناء الحصة الدراسية - بعيدا عن نظر المعلم – هو أحد الشواغل التي تصرفه عن متابعة التعلّم، وتبادل المعرفة في جو الفصل الدراسي بينه وبين معلمه، أو بينه وبين أقرانه، ناهيك عن دورها في طمس المواهب، وإعاقة القدرات، وإضعاف المهارات التعبيرية والكتابية والفنية. في ظل هذا النسق الذي تدور فيه وتسيطر من خلاله، ما لم يتم صياغة منظومة ثقافية ووعي اجتماعي شامل، يحدّ من هذه الآثار، ويتجه بها نحو تفاعلات إيجابية رشيدة.