من بين المعضلات الأمنية العديدة التي أثارها قرار الرئيس ترمب بالانسحاب المبكر من سورية هو كيفية التعامل مع المواطنين الغربيين الذين قُبض عليهم هناك يقاتلون في صفوف «داعش». ولا يزال المئات منهم محتجزين من قبل «قوات سورية الديمقراطية» التي يقودها الأكراد في الجانب الشمالي الشرقي للبلاد، ومن غير الواضح إلى متى يمكن أن يستمر ترتيب الاحتجاز هذا بعد مغادرة الجزء الأكبر من القوات الأميركية.
وتدرك أجهزة الأمن الأوروبية التهديد الذي قد يطرحه هذا الأمر، ويطرح خيار محاكمتهم في أوطانهم مزيجا من التحديات القانونية والإصلاحية والاستخباراتية، ولا تقدّم في الوقت نفسه رهانا أكيدا على أن العائدين سيحجمون عن تنفيذ أي أعمال إرهابية على المستوى المحلي.
لا تزال الآليات العملية الضرورية لإعادة هؤلاء بأمان إلى أوطانهم قيد الدرس، على غرار إيجاد أدلة مقبولة كافية لمحاكمتهم وإعادة دمج الأفراد المتطرفين للغاية والعنيفين أحيانا من جديد في المجتمع ما إن يمضوا مدة عقوبتهم. وغالبا ما تصدر الحكومات الأوروبية أحكاما بالسجن لفترات قصيرة أو تُسقط حتى التهم بحق المواطنين الذين سافروا إلى الخارج من أجل القتال بالنيابة عن منظمات مصنفة على أنها إرهابية.
كما أن الضغوطات غير الضرورية لإعادة المشتبه بهم بسرعة إلى أوطانهم تلقي ثقلا إضافيا على الأجهزة الأمنية وسط تقييمها ما إذا كان عليها تعقّب العائدين، وكيفية فعل ذلك، ما إن يخرجوا من السجن. ونظرا إلى هذه التحديات، تتوخى العديد من الدول الحذر إزاء السماح لأفراد من داعش بالعودة إلى ديارهم، حيث أعلنت كل من هولندا وسويسرا أنهما لا ترغبان في إعادة مثل هؤلاء المواطنين، في حين تخبطت بريطانيا بالمشكلة القانونية الدقيقة المتمثلة في تجريدهم من جنسيتهم.
وتدرس دول الغرب مجموعة من المقاربات لمعالجة هذه المشاكل، رغم أنها تتطلب جميعها وقتا كافيا لتطبيقها. على سبيل المثال، أقرت بعض الحكومات الأوروبية أن عتباتها المرتفعة التي وضعتها من أجل توافر أدلة للمحاكمة قد تصعّب اتخاذ خطوات بحق العائدين، لا سيما حين لا يُعتبر انضمامهم إلى جماعة محددة جريمة خطرة في مثل هذا الاختصاص القضائي. وعليه قد تحذو بعض الدول قريبا مثال أستراليا من خلال اعتبار السفر إلى بعض أقسام المناطق الأجنبية التي تشهد حروبا غير قانوني (مثلا الرقة)، مما يسمح للسلطات بمحاكمة العائدين لمجرد ذهابهم إلى هذه المناطق التي يُعرف أنها خاضعة لسيطرة مجموعات إرهابية. وتنظر دول أخرى في إجراء تغييرات قانونية من أجل جعل مزيد من الأدلة مقبولة في المحكمة على سبيل المثال وبحسب ما يتردد، يقترح مستند جديد صادر عن الحكومة الإسبانية السماح للمدعين العامين باستخدام عينات الحمض النووي والمستندات،وغيرها من المواد التي تمّ الحصول عليها من الجيوش الأجنبية، مما قد يساعدهم على توجيه التهم إلى العائدين في أعمال إرهابية محددة بدلا من الاكتفاء بتهمة الانضمام إلى «داعش».
وكحل بديل، في حال أثبتت بعض الدول أنها غير راغبة كليا في استعادة مواطنيها، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية النظر في إقامة ما يشبه «محاكمات نورمبرج للجهاديين»، آخذة في الحسبان شهادة سكان محليين والأدلة الجنائية عبر الإنترنت استنادا إلى تاريخ كل منهم في ترويج داعش، أو، في حال أبدت هذه الدول رغبة في استرداد مواطنيها، يمكن للنظام القضائي في الولايات المتحدة المساعدة في محاكمات محتملة.
لكن الولايات المتحدة تواجه عقبات خاصة بها لجهة جمع ما يكفي من الأدلة من ساحات المعارك الإقليمية من أجل محاكمة العائدين. وبالتالي قد يكون من الأجدى تقديم مساومة لأفراد داعش الأدنى مرتبة مقابل مساعدتهم في محاكمة أفراد رفيعي المستوى متورطين في جرائم أكثر فظاعة.
إن التحديات التي يطرحها أفراد داعش المحتجزون معقدة وحساسة، ومن أجل رأب هذا الصدع، على الإدارة الأميركية أن تساعد السلطات الأوروبية على استحداث أنظمة قانونية جديدة أو وسائل بديلة للمحاكمة، مع التفكير في الوقت نفسه في الدروس المستخلصة من التدفقات السابقة للجهاديين وسياسات الاحتجاز غير الفعالة. غير أنه في حال عدم التوصل إلى حل عملي، وتم سحب الغطاء الأمني الأميركي في شمال شرق سورية إلى حدّ كبير وسط بقاء المئات من المقاتلين في قبضة «قسد»، عندها قد يتخذ داعش خطوة بنفسه من أجل تغيير الوضع القائم، لا سيما إخراجهم من السجون ومحاولة تأجيج عودته وتمرده، تماما كما فعل بين 2012 و2013. وبموجب هذا السيناريو لا يجب أن تقلق أجهزة الأمن الأوروبية من المؤامرات الإرهابية المحلية والعائدين الخطرين فحسب، بل أيضا من احتمال استئناف هجمات إرهابية واسعة النطاق ومنسقة خارجيا كتلك المرتبكة بين الأعوام 2004-2005 و2014-2016.
ماثيو ليفيت هارون ي. زيلين
* مدير برنامج راينهارد للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن