نسمع كثيرا هذه الكلمات «وسيلة إعلامية - رأي عام - مضمون الرسالة - هدف - جمهور»، من محللين وكُتاب وسياسيين وصحفيين.
مفردات تدور حولها مفاهيم أخرى مرتبطة بها بشكل مباشر، وتلعب دورا كبيرا في التأثير بها، وهي «التحكم في الرأي العام - كسب الجمهور - صناعة الإشاعة - تضليل الرأي العام - اغتيال للعقل...».
كل ذلك يعدّ نتاجا حتميا لممارسات وسائل الإعلام في وقتنا الراهن، ولعل هذا الارتباط يقودنا إلى حديث قديم للكاتب الأميركي هربرت شيللر، والذي كان أستاذا لمادة «وسائل الاتصال» بجامعة كاليفورنيا، وغيرها من الجامعات. صاحب «المتلاعبون بالعقول» الكتاب الذي يحتاج إلى إسقاط للواقع المعاصر، وربطه بالممارسات الإعلامية التي نراها ونشعر بواقعها المعاش، خلال فهم الدوافع التي تجعل قنوات فضائية تكرّس طاقتها لتشويه سمعة دولة أخرى، أو لإضرار متعمد، وتزييف الواقع الحقيقي، وافتعال الإثارة، فتلك الأعمال الشيطانية أوضح شيللر، كمثال عليها في مقدمته، وهي أن مديري أجهزة الإعلام في أميركا، يقومون بوضع أسس لعملية تداول صور ومعلومات، ويشرفون على معالجتها، وتنقيحها، وإحكام السيطرة عليها.
فتلك الصور والمعلومات التي تُحدّد معتقداتنا ومواقفنا، بل وتحدد سلوكنا في النهاية. فالقضية الأساسية لديهم هي قيادة الجمهور والتحكم بطريقة تفكيره للوصول إلى النتائج المرغوبة، وممكن أن أسمي هذا الأمر «السلوك التابع»، فعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجّهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي أو السياسي أو الديني، فإنهم يتحوّلون إلى سائسي عقول، ومروضي تفكير، وهذا هو الهدف الأساسي من صناعة الرسالة الإعلامية لبعض القنوات الفضائية والعاملين عليها وبها.
ولعل هذا الأمر يقودنا ويرجعنا أيضا إلى جوزيف جوبلز، صاحب المقولة الشهيرة «أعطني إعلاما بلا ضمير، أعطك شعبا بلا وعى».
جوبلز صاحب آلة الدعاية النازية الجبارة، الذي جعل أدولف هتلر بالنسبة للألمان المنقذ العظيم، وأحد أساطير الحرب النفسية الإعلامية، وأبرز وأهم من استثمروا الإعلام لتحقيق مآربهم، صاحب شعار «اكذب حتى يصدقك الناس». وهذا الشعار نجده ممارسا في قنوات فضائية وصحف عالمية وعربية، وقد تطرق الكاتب والباحث المصري أحمد فهمي، في كتابه «هندسة الجمهور»، إلى كيف تغيرُ وسائل الإعلام الأفكار والتصرفات، وأن غالب وسائل الإعلام لا تتوقف عن خداع الجماهير لحظة واحدة، سواء كانت تلك الوسائل منصة يتحكم فيها «السياسيون أم رجال الأعمال».
فالسيل الجارف من الأخبار الكاذبة وإخراجها بشكل بصري جاذب، يجعلنا نعتقد أن هذه الوسائل تسعى وتبحث عن الحقيقة، ولكن هي في الأساس تبحث عن الإثارة وصنع الأزمات خلال الدعايات التي تحمل معها بذور الإشاعات والأكاذيب، وتستخدم إعلام المواطن لتدعم بها حججها الواهية، وتحاول تغيير مجرى الرسالة الإعلامية التي يقوم بها هؤلاء الجمهور غير الواعي بأنه جزء من إستراتيجية خداع فكري بوسائل إعلامية كثيرة، فهم أحد ضحاياها.
وتقوم هذه الوسائل بالضخ المتواصل والإغراق بالأخبار، حول قضية سياسية أو اجتماعية معينة، وبطريقة التكرار على الجمهور، وتحشيده وتعبئته، خلال الجوانب العاطفية بشكل مبرمج ومستمر، بحيث لو كان الجمهور لديه مناعة تصدٍّ وفكرٍ ناقد لبعض هذه الأخبار، فإنه لن يستطيع مقاومة السيل العرم من الأخبار الكاذبة، لأن الجمهور غير الواعي سيكون مساندا لتلك الأخبار الكاذبة. فيكون مجبرا على التصديق، وهذا ما يسميه شيللر «الوعي المعلّب»، وأَفردَ له فصلا كاملا في كتابه، متطرقا إلى مصطلح الأخبار الكاذبة، الذي كثيرا ما يكرره ترمب رئيس الولايات المتحدة الأميركية في حديثة لوسائل الإعلام، إذ ووصف بعض وسائل الإعلام الأميركية بأنها «عدو للشعب».
وهذا اعتراف من رئيس أقوى دولة تملك إعلاما مؤثرا بدورها السيئ، وبالتالي فإن أحد أهم أجندة وعناصر قوة وسائل الإعلام، هو السيطرة على العقول.