عند الحديث عن بعض الأماكن التي لم يُكتب عنها - تاريخياً - بشكل كافٍ بسبب الاعتقاد بأمية الناس أو لعدم اهتمام من يجيد القراء والكتابة منهم بهذا اللون التوثيقي، تفاجأ بمن يدعي أن بيته مليء بالمخطوطات النادرة التي تحل جزءاً كبيراً من المشكلة، وأنها موثقة وثابتة ولا تحتمل الشك، لكنه لا يستطيع لقيمتها وخطورتها - بحسب رأيه - أن يُخرجها للعلن أو حتى يسمح لأحد أياً كان بتصويرها، لأسباب كثيرة ليس أقلها أن المجتمع اليوم لا يحتمل كشف بعض ملامح الماضي التاريخي للمجتمعات الصغيرة التي ربما كان يشوبها الكثير مما لا يتوافق مع الحاضر اجتماعياً وعقدياً. وسيقول لك إنه بالرغم من حرصه على نشر المعرفة إلا أنه لا يرى في الوقت نفسه أن أحداً من الباحثين جدير بالاطلاع عليها فضلاً عن البحث العلمي الدقيق في ما تحتويه، بل إن بعضهم يدعي أن لدى أجداده من المخطوطات النادرة ما هو كفيل بتغيير الكثير من الأنساب وأسماء الأماكن والحقائق الراسخة التي توارثتها الأجيال بالمشافهة كابراً عن كابر، ومع كامل قناعتك الداخلية أن مثل هؤلاء لا يمتلكون سوى رسائل وقصائد دارت يوماً بين أصدقاء فرقتهم المسافات البعيدة، وأنها مجرد وسيلة من وسائل الاتصال العادية بين الناس في ذلك الزمن الجميل، و لا يمكن لها أو مثلها أن تشكل قيمة أو فارقاً حقيقياً يمكن البناء عليه إلا أنك ستجاملهم - كما جرت العادة - وتقول إننا نحتاج إلى رؤية هذه المخطوطات النادرة لأنها ستسد عجزاً في التاريخ المكتوب لبعض الأماكن والأحداث المهمة، وعندها سيقول لك المدعي بأنه عاكف على ما لديه من مخطوطات لمراجعتها وتحقيقها ومن ثم طباعتها بشكل يليق بذلك الإرث العظيم في أقرب وقت ممكن، وأن السحارات القديمة في منزله مليئة بما لذ وطاب من المخطوطات والوثائق ولمراحل تاريخية مختلفة، وما عليك إلا أن تمنحه وقتاً فقط، لكن هذا الوقت القريب والممكن يتحول إلى سنوات طويلة لا نراها تقوم إلا على الكذب والادعاء الذي لم تخدمه مخطوطة واحدة ذات قيمة، وهو ما يجعل الباحثين الجادين يصلون لقناعة بأن أصحاب تلك السحارات المليئة بالمخطوطات والوثائق النادرة مجرد أدعياء ومأزومين نفسياً لا أكثر! أو أنهم يبحثون عن دور وضوء إعلامي يجبر لهم عطب الواقع الذي يعيشونه، ومع أننا ندرك جميعاً أهمية المخطوطات والوثائق التاريخية الحقيقية إلا أننا لا نجد لدى أولئك المدعين ما يشفع لهم في مواجهة الأسئلة المتكررة من قبل الباحثين عن تلك المخطوطات، خصوصاً وقد نصبوا أنفسهم مالكين وحافظين لها.. إذ من الصعب في هذا الزمن أن تُعول على ما لديك من أوراق قديمة قد تكون عادية جداً، ثم تدعي أنها تاريخ مكان أو وقائع، وتصر على ذلك ولا تخرج شيئاً منها، وتريد في نفس الوقت أن يصدقك الناس وهم لم يروا ولم يقرؤوا.

قبل أيام كنت في بيت أحد الأكاديميين المهتمين بالوثائق التاريخية وشكا لي جزءاً كبيراً من معاناته مع مدعي امتلاك الوثائق والمخطوطات، وكيف جعلوه بادعاءاتهم الزائفة يبذل الكثير من الوقت والجهد وحتى المال في ملاحقتهم لعل وعسى، وبعد مضي أكثر من ثلاث سنوات تكرم عليه أحدهم برسالة كتبها جده قبل عقود طويلة لصديق له يُطمئنه فيها على صحته وأخباره، ويعرض عليه أن يحج معه في ذلك العام، ويخبره أيضاً بأن "ريعة" زُفت إلى "حسن"! وأن نائب الجماعة قاطع الزفاف في البداية لأنه كان يريد "ريعة" حليلة له، ثم لم يلبث أن عاد مُباركاً لأنه رجل عاقل يؤمن بالقدر والنصيب! فهل هذه هي الوثائق التي تستحق كل هذا الضجيج؟ وهل تستحق رسالة عادية كهذه ثلاث سنوات من المواعيد والمطاردات من أجل أن يُسمح لدكتور متخصص في التاريخ بالاطلاع عليها؟ وهل زفاف "ريعة" حدث مهم يتطلب السرية إلى هذه الدرجة؟ سأترك لكم الإجابة! أما أنا فأقول مرتاح الضمير إنه لا تعويل على المزاعم التي لا يخدمها الواقع أياً كانت، وما دام أن الباحثين لا يجدون وربما لن يجدوا ما يعادل تلك الادعاءات المضخمة، فليعذرنا أولئك المتباهون بالوهم والرسائل الأخوية الخاصة جداً التي تشبه إلى حد كبير ألبومات صور العائلة حينما لا نصدقهم، بل وحينما نتهمهم بأنهم محض صدى لأجداد كانوا يحسنون القراءة والكتابة، وربما كانوا عظماء بأخلاقهم كعامة الناس في عصرهم ولا شيء آخر، أما المخطوطات والوثائق فسلامي على "الحاجة ريعة"، فربما نجد عندها وعند رفيقاتها الخبر اليقين.